المقام الثالث ـ أنّ الله قد عرّف رسوله بنفسه ، وبصّره بأدلته ، وأراه ملكوت سماواته وأرضه ، وعرّفه سنن من كان قبله من إخوته ، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم ، ونحن حثالة أمته ، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشى مكبّا على وجهه ، غير عارف بنبيه ولا بربّه.
المقام الرابع ـ تأمّلوا ـ فتح الله أغلاق النظر عنكم ـ إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ، ممن صرح بعداوته ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنّى ألا ينزل عليه من الله وحى ، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه ، وأراد إلّا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحى الذي كان حياة جسده وقلبه ، وأنس وحشته ، وغاية أمنيته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ، فيؤثّر على هذا مجالسة الأعداء.
المقام الخامس ـ أنّ قول الشيطان تلك الغرانقة العلا ، وإنّ شفاعتها ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم ـ قبله منه ، فالتبس عليه الشيطان بالملك ، واختلط عليه التوحيد بالكفر ، حتى لم يفرق بينهما.
وأنا من أدنى المؤمنين منزلة ، وأقلّهم معرفة بما وفقني الله له ، وآتاني من علمه ، لا يخفى علىّ وعليكم أنّ هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله. ولو قاله أحد لكم لتبادر الكلّ إليه قبل التفكير بالإنكار والرّدع ، والتثريب والتشنيع ، فضلا عن أن يجهل النبىّ صلى الله عليه وسلم حال القول ، ويخفى عليه قوله ، ولا يتفطّن لصفة الأصنام بأنها الغرانقة العلا ، وأنّ شفاعتها ترتجى. وقد علم علما ضروريا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنطق ولا تضر ، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع ، بهذا كان يأتيه جبريل الصباح والمساء ، وعليه انبنى التوحيد ، ولا يجوز نسخه من جهة المعقول ولا من جهة المنقول ، فكيف يخفى هذا على الرسول؟ ثم لم يكف هذا حتى قالوا : إنّ جبريل لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقى إليه
(١٧ ـ أحكام ـ ٣)