وفي ذلك ثلاثة أقوال :
الأول ـ روى عن ابن عباس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم ، إنا لله وإنّا إليه راجعون! ليهلكنّ. فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).
قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال ، خرجه الترمذي وغيره.
الثاني ـ قال مجاهد : الآية مخصوصة ، نزلت في قوم مهاجرين ، وكانوا يمنعون ، فأذن الله في قتالهم ، وهي أول آية نزلت في القتال.
الثالث ـ قال الضحاك : استأذن أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار ، فقيل (١) : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). فلما هاجر نزلت : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح ، وقد بيناه في قسم النسخ الثاني من علوم القرآن.
المسألة الثانية ـ معنى «أذن» أبيح ، فإنه لفظ موضوع في اللغة لإباحة كلّ ممنوع ، وهو دليل على أن الإباحة من الشرع ، وأنه لا يحكم قبل الشرع ، لا إباحة ولا حظرا إلّا ما حكم به الشرع ، وبيّنه ، وقد أوضحناه في أصول الفقه ، ألا ترى أنّ الله قد كان بعث رسوله ودعا قومه ، ولكنهم لم يتصرفوا إلّا بأمر ، ولا فعلوا بإذن.
المسألة الثالثة ـ بيّنا أنّ الله سبحانه لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحجة دعا قومه إلى الله دعاء دائما عشرة أعوام ، لإقامة حجّة الله سبحانه ، ووفاء بوعده الذي امتنّ به بفضله في قوله (٢) : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، واستمر الناس في الطغيان ، وما استدلّوا بواضح البرهان ، وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق ، وأبوا عن الصدق أمر رسوله بالقتال ، ليستخرج الإقرار بالحق منهم بالسيف.
المسألة الرابعة ـ قرئ يقاتلون بكسر التاء وفتحها ، فإن كسرت التاء كان خبرا عن فعل المأذون (٣) لهم ، وإن فتحتها كان خبرا عن فعل غيرهم بهم (٤) ، وإن الإذن وقع
__________________
(١) سورة الحج ، آية ٣٨.
(٢) سورة الإسراء ، آية ١٥.
(٣) أى يقاتلون عدوهم (القرطبي).
(٤) أى يقاتلهم المشركون ، وهم المؤمنون (القرطبي).