أو هبة سقط القطع عند أبى حنيفة ، والله تعالى يقول : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ؛ فإذا وجب القطع حقا لله تعالى لم يسقطه شيء ولا توبة السارق ، وهي :
المسألة الثانية والعشرون ـ وقد قال بعض الشافعية : إن التوبة تسقط حقوق الله وحدوده ، وعزوه إلى الشافعى قولا ، وتعلّقوا بقول الله تعالى (١) : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وذلك استثناء من الوجوب ، فوجب حمل جميع الحدود عليه.
وقال علماؤنا : هذا بعينه هو دليلنا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر حدّ المحارب قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ). وعطف عليه حدّ السارق ، وقال فيه : (٢) (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ؛ فلو كان ظلمه (٣) في الحكم ما غاير الحكم بينهما ، ويا معشر الشافعية ؛ سبحان الله! أين الدقائق الفقهية والحكم الشرعية التي تستنبطونها في غوامض المسائل ، ألم تروا إلى المحارب المستبد بنفسه ، المجترئ بسلاحه ، الذي يفتقر الإمام معه إلى الإيجاف (٤) بالخيل والرّكاب ، كيف أسقط جزاءه بالتوبة استنزالا عن تلك الحالة ، كما فعل بالكافر في مغفرة جميع ما سلف استئلافا على الإسلام.
فأما السارق والزاني ، وهم في قبضة المسلمين ، وتحت حكم الإمام ، فما الذي يسقط عنهم ما وجب عليهم؟ أو كيف يجوز أن يقال على المحارب ، وقد فرّقت بينهما الحالة والحكمة؟ هذا لا يليق بمثلكم ، يا معشر المحققين.
وأمّا ملك السارق المسروق فقد قال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم : هو له يا رسول الله! فقال : فهلّا قبل أن تأتينى به. خرّجه الدارقطني وغيره.
المسألة الرابعة والعشرون ـ قال أبو حنيفة : لا يقطع سارق المصحف (٥) ، وليس له فيه ما ينفع إلا إن منع بيعه وتملّكه. فإن فعل ذلك قلنا له : إذا اشترى رجل ورقا وكتب فيه القرآن لا يبطل (٦) ما ثبت فيه من كلام الله ملكه ، كما لم يبطل ملكه لو كتب فيه حديث
__________________
(١) سورة المائدة ، آية ٣٤.
(٢) سورة المائدة ، آية ٣٩.
(٣) في ل : مثله.
(٤) الإيجاف : الوجف والوجيف : ضرب من سير الخيل والإبل ، وجف يجف وأوجفته (القاموس).
(٥) في القرطبي (٦ ـ ١٧٠) : واختلفوا في سارق المصحف ، فقال الشافعى وأبو يوسف وأبو ثور : يقطع إذا كانت قيمته ما تقطع فيه اليد ، وبه قال ابن القاسم. وقال النعمان : لا يقطع من سرق مصحفا. قال ابن المنذر : يقطع سارق المصحف.
(٦) في ل : إن.