فإن قيل : فقد توضّأ النبىّ صلى الله عليه وسلم مرة مرة ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. وتوضأ مرتين مرتين ، وقال : من توضأ مرتين مرتين آتاه الله أجره مرتين. ثم توضأ ثلاثا ثلاثا ، وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ، ووضوء أبى إبراهيم. وهذا يدلّ على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ ، يتعلّق الأجر بها مضاعفا على حسب مراتبها.
قلنا : هذه الأحاديث لم تصحّ ، وقد ألقيت إليكم وصيّتي في كل وقت (١) ومجلس ألّا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصحّ سنده ، فكيف ينبنى مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل ؛ على أن له تأويلا صحيحا ، وهو أنه توضّأ مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ؛ فإنه أقل ما يلزم ، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها. ثم توضأ بغرفتين وقال : له أجره مرتين في كل تكلف غرفة ثواب. وتوضأ ثلاثا وقال : هذا وضوئي ؛ معناه الذي فعلته رفقا بأمتى وسنّة لهم ؛ ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث ؛ لأن الغرفة الأولى تسنّ العضو للماء وتذهب عنه شعث التصرف. والثانية ترحض وضر (٢) العضو ، وتدحض وهجه. والثالثة تنظّفه ، فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويا جافيا فيعلّم الرفق حتى يتعلّم ، ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض إليها ، ويتقدم ، ولهذا قال من قال : فمن زاد على الثلاث فقد أساء وظلم (٣).
المسألة التاسعة والأربعون ـ لما ذكر الله سبحانه غسل الوجه مطلقا ، وتمضمض النبىّ صلى الله عليه وسلم فبيّن وجه النظافة فتعيّن في ذلك ما قدمنا بيانه ، ثم لازم النبىّ صلى الله عليه وسلم السّواك فعلا ، وندب إليه أمرا ، حتى قال في الحديث الصحيح : لو لا أن أشقّ على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كلّ وضوء. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه إذا قام من الليل يشوص (٤) فاه بالسّواك ، وما غفل عنه قطّ ؛ بل كان يتعاهده ليلا ونهارا ، فهو مندوب إليه ، ومن سنن الوضوء ، لا من فضائله ، وقد بينّاه في شرح الحديث الصحيح.
__________________
(١) في ا : ورقة.
(٢) ترحض : تغسل ، والوضر : وسخ الدسم واللبن (النهاية).
(٣) في سنن الترمذي (١ ـ ٦٤) : قال ابن المبارك : لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم.
(٤) يشوص : يدلك أسنانه وينقيها وينظفها. وقيل : هو أن يستاك من سفل إلى علو. وأصل الشوص الغسل (النهاية).