المسألة الثامنة والأربعون ـ في تحقيق معنى لم يتفطّن له أحد حاشا مالك بن أنس ، لعظيم إمامته ، وسعة درايته ، وثاقب فطنته ، وذلك أن الله تعالى قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ...) الآية. وتوضأ (١) النبىّ صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين ، وثلاثا ثلاثا ، ومرتين في بعض أعضائه وثلاثا في بعضها في وضوء واحد ، فظنّ بعض الناس ـ بل كلهم ـ أنّ الواحدة فرض ، والثانية فضل (٢) ، والثالثة مثلها ، والرابعة تعدّ ، وأعلنوا بذلك في المجالس ، ودوّنوه في القراطيس ؛ وليس كما زعموا وإن كثروا ، فالحقّ لا يكاد بالقفزان ، وليس سواء في دركه الرجال والولدان.
اعلموا وفّقكم الله أن قول الراوي إن النبىّ صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين وثلاثا أنه أوعب بواحدة ، وجاء بالثانية والثالثة زائدة فإن هذا غيب لا يدركه بشر (٣) ؛ وإنما رأى الراوي أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قد غرف لكل عضو مرة ، فقال : توضأ مرّة ، وهذا صحيح صورة ومعنى ؛ ضرورة أنا نعلم قطعا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد ؛ وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين فإننا لا نتحقّق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلا ، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها ، بحسب الماء وحال الأعضاء في النظافة وتأتى حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها ، فيشبه ، والله أعلم ، أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يوسّع على أمته بأن يكرّر لهم الفعل ، فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة ، فجرى مع اللطف بهم والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلص ؛ ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثا إلا ما أسبغ.
قال : وقد اختلفت الآثار في التوقيت ، يريد اختلافا يبيّن أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد ، وقد توضأ النبىّ صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فغسل وجهه بثلاث غرفات ، ويده بغرفتين ، لأنّ الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب ، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرة بخلاف الذراع فإنه مسطّح فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها (٤) أكثر مما يكون ذلك في الوجه.
__________________
(١) سنن الترمذي : ٦٠ ، ٦٢ ، ٦٣.
(٢) فضل : زيادة.
(٣) في ا : ليس ، وهو تحريف.
(٤) الذراع تذكر وتؤنث.