يتصرّفون بمشيئتهم ، ويحكمون بإرادتهم ، واختيارهم ؛ ولهذا قال مالك ـ فيما رواه عنه أشهب : ما أبين هذا في الرد على أهل القدر (١) : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) (٢). وقوله تعالى لنوح (٣) : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) ؛ فهذا لا يكون أبدا ولا يرجع ولا يزال.
الآية الحادية والخمسون ـ قوله تعالى (٤) : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
فيها تسع مسائل :
المسألة الأولى ـ في ثبوتها :
اعلموا ـ وفّقكم الله ـ أن هذه مسألة عظيمة القدر ، وذلك أنّ الرافضة كادت الإسلام بآيات وحروف نسبتها إلى القرآن لا يخفى على ذي بصيرة أنها من البهتان الذي نزغ به الشيطان ، وادّعوا أنهم نقلوها وأظهروها حين كتمناها حن ، وقالوا : إن الواحد يكفى في نقل الآية والحروف كما فعلتم ، فإنكم أثبتم آية بقول رجل واحد ، وهو خزيمة بن ثابت ، وهي قوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ؛ وقوله (٥) (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).
قلنا : إن القرآن لا يثبت إلّا بنقل التواتر ، بخلاف السنة فإنّها تثبت بنقل الآحاد. والمعنى فيه أنّ القرآن معجزة النبىّ صلى الله عليه وسلم ، الشاهدة بصدقه ، الدالة على نبوته ، فأبقاها الله على أمته ، وتولّى حفظها بفضله ، حتى لا يزاد فيها ولا ينقض منها. والمعجزات إما أن تكون معاينة إن كانت فعلا ، وإما أن تثبت تواترا إن كانت قولا ؛ ليقع العلم بها ، أو تنقل صورة الفعل فيها أيضا نقلا متواترا حتى يقع العلم بها ، كأنّ السامع لها قد شاهدها ، حتى تنبنى الرسالة على أمر مقطوع به ، بخلاف السنة ؛ فإنّ الأحكام يعمل فيها على خبر الواحد ؛ إذ ليس فيها معنى أكثر من التعبّد.
__________________
(١) في القرطبي : على القدرية.
(٢) آية ١١٠.
(٣) سورة هود ، آية ٣٦.
(٤) آية ١٢٨.
(٥) سورة الأحزاب ، آية ٢٣