وقد روى عن الشعبي أنه قال : ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وذهب معه العباس بن عبد المطلب ، فقال العباس : تكلّموا يا معشر الأنصار ، وأوجزوا ؛ فإنّ علينا عيونا ، قال الشعبي : فخطب أبو أمامة أسعد بن زرارة خطبة ما خطب المرد ولا الشّيب مثلها قطّ. فقال : يا رسول الله ؛ اشترط لربّك ، واشترط لنفسك ، واشترط لأصحابك. قال : اشترط لربّى أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم ، وأشترط لأصحابى المواساة في ذات أيديكم. قالوا : هذا لك ، فما لنا؟ قال : الجنة. قال : ابسط يدك. وهذا وإن كان مقطوعا فإن معناه ثابت من طرق.
المسألة الثانية ـ في هذه الآية جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكلّ للسيد ، لكن إذا ملّكه وعامله فيما جعل إليه وتاجره بما ملّكه من ملكه ، فإنّ الجنة لله ، والعباد بأنفسهم وأموالهم لله ، وأمرهم بإتلافها في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك فيها. وهو عوض عظيم ، لا يدانيه معوض ولا يقاس به ؛ ولهذا يروى عن ابن عباس أنه لما قرأ هذه الآية قال : ثامنهم (١) والله وأغلى الثمن ، يريد أنه أعطاهم أكثر مما يجب لهم في حكم المتاجرة ، ولم يأت الربح على مقدار الشراء ؛ بل زاد عليه وأربى.
المسألة الثالثة ـ قال علماؤنا : كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلّفين كذلك اشترى من الأطفال ، فآلمهم وأسقمهم ؛ لما في ذلك من المصلحة ، وما فيه من الاعتبار للبالغين ، والثواب للوالدين والكافلين فيما ينالهم من الهمّ ، ويتعلق بهم من التربية والكفالة ؛ وهذا بديع في بابه موافق لما تقدم قبله ؛ فإن البالغ يمشى إلى القتل مختارا ، والطفل يناله الألم اقتسارا.
المسألة الرابعة ـ قوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) إخبار من الله أنّ هذا كان في هذه الكتب ، وقد تقدمت الإشارة إليه ، وقلنا : إن الجهاد ومحاربة الأعداء إنما أصله من عهد موسى ، فسبحان الفعّال لما يريد.
__________________
(١) ثامنت الرجل في البيع أثامنه : إذا ناولته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه (النهاية).