المسألة الخامسة ـ قوله : (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) :
يعنى أنهم كانوا جماعة واحدة في مسجد واحد ، فأرادوا أن يفرّقوا شملهم في الطاعة ، وينفردوا عنهم للكفر والمعصية ، وهذا يدلّك على أنّ المقصد الأكثر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب ، والكلمة على الطاعة ، وعقد الذّمام والحرمة بفعل الديانة ، حتى يقع الأنس بالمخالطة ؛ وتصفو القلوب من وضر (١) الأحقاد والحسادة.
ولهذا المعنى تفطّن مالك رضى الله عنه حين قال : إنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد ، ولا بإمامين ، ولا بإمام واحد خلافا لسائر العلماء وقد روى عن الشافعى المنع حيث كان ذلك تشتيتا للكلمة ، وإبطالا لهذه الحكمة ، وذريعة إلى أن نقول : من أراد الانفراد عن الجماعة كان له عذر ، فيقيم جماعته ، ويقدّم إمامته ؛ فيقع الخلاف ، ويبطل النظام ، وخفى ذلك عليهم وهكذا كان شأنه معهم ، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة ، وأعلم بمقاطع الشريعة.
المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) : يقال : أرصدت كذا لكذا إذا أعددته مرتقبا له به ، والخبر بهذا القول عن أبى عامر الراهب ، سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر (٢) الفاسق ، كان قد حزّب الأحزاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاء معهم يوم الخندق ، فلما خذله الله لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى أهل مسجد الضّرار ، يأمرهم ببناء المسجد المذكور ، ليصلّى فيه إذا رجع ، وأن يستعدّوا قوة وسلاحا ؛ وليكون فيه اجتماعهم للطّعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأطلعه الله على أمرهم ، وأرسل لهدمه وحرفه ، ونهاه عن دخوله ، فقال ـ وهي :
الآية التاسعة والثلاثون ـ قوله تعالى (٣) : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
فيها سبع مسائل :
__________________
(١) أصل الوضر : الوسخ.
(٢) كان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب ، وله شرف في الخزرج ، ولما قدم رسول الله مهاجرا إلى المدينة خرج فارا إلى كفار مكة يمالئهم على حرب رسول الله.(ابن كثير : ٢ ـ ٣٨٧).
(٣) آية ١٠٨