مع علمه يعرض عنهم ، ويكتفى بظاهر إسلامهم ، ويسمع أخبارهم فيلغيها بالبقاء عليهم ، وانتظار الفيئة إلى الحق بهم ، وإبقاء على قومهم ، لئلا تثور نفوسهم عند قتلهم ، وحذرا من سوء الشفعة (١) في أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؛ فكان لمجموع هذه الأمور يقبل ظاهر إيمانهم ، وبادى صلاتهم ، وغزوهم ، ويكل سرائرهم إلى ربهم ، وتارة كان يبسط لهم وجهه الكريم ، وأخرى كان يظهر التغيير (٢) عليهم.
وأما إقامة الحجة باللسان فكانت دائمة ، وأما قول من قال : إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود فيهم لأنّ أكثر إصابة الحدود كانت عندهم ؛ فإنه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كامنا ، لا بما تتلبّس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين يشهد مساقها (٣) أنهم لم يكونوا منافقين.
المسألة الثالثة ـ قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) :
الغلظة نقيض الرأفة ، وهي شدّة القلب وقوّته على إحلال الأمر بصاحبه. وليس ذلك في اللسان ؛ فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرّب (٤).
الآية التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى (٥) : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله : (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) :
فيه ثلاثة أقوال :
__________________
(١) في ا : السمعة.
(٢) في ا : البغي.
(٣) في ل ، والقرطبي : سياقها.
(٤) لا يثرب : أى لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب. وقيل : لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد ، فإن زنا الإماء لم يكن عند العرب مكروها ولا منكرا ، فأمرهم بحد الإماء كما أمرهم بحد الحرائر (نهاية ابن الأثير).
(٥) الآية الرابعة والسبعون.