ثم ولّى فجلس إلى سارية ، وجاست إليه ، ولا أردى من هو ، فقلت له : لا أرى القوم إلا قد كرهوا ما قلت لهم. قال : إنهم لا يعقلون شيئا ، قال لي خليلي. قلت : من خليلك؟ قال : النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر ؛ أتبصر أحدا؟ فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار ، وأنا أرى رسول الله يرسلني في حاجة له. قلت : نعم. قال لي : ما أحبّ أنّ لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله ، إلا ثلاثة دنانير ، وإن هؤلاء لا يعقلون ، إنما يجمعون للدنيا ، والله لا أسألهم دنيا ، ولا أستفتيهم عن دين ، حتى ألقى الله (١).
قال القاضي : الحلمة : طرف الثدي ، والنّغض ، بارز عظم الكتف المحدد. ورواية أبى ذر لهذا الحديث صحيحة ، وتأويله غير صحيح ؛ فإن أبا ذر حمله على كل جامع للمال محتجز له ، وإنما المراد به من احتجنه واكتنزه عن الزكاة. والدليل عليه أمران :
أحدهما ـ ما رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة قال : من آتاه الله ما لا فلم يؤدّ زكاته مثّل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان ، يطوّقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه ـ يعنى بشدقيه ـ يقول : أنا مالك ، أنا كنزك. ثم قرأ (٢) : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ ...) الآية. وقد تقدم بيانه.
قال القاضي : قوله : ما لم تؤدّ زكاته ، يريد أو حقّ يتعلق به ، كفكّ الأسير ، وحق الجائع ، والعطشان. وقد بينا أن الحقوق العارضة كالحقوق الأصلية.
وقوله : مثّل له ماله شجاعا ، يعنى حيّة. وهذا تمثيل حقيقة ؛ لأن الشجاع جسم والمال جسم ، فتغيّر الصفات والجسمية واحدة ، بخلاف قوله : يؤتى بالموت فإن تلك طريقة أخرى. وإنما خص الشجاع ؛ لأنه العدو الثاني للخلق. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهن : ما سالناهن منذ حاربناهن.
وقوله : أقرع ، يعنى الذي ابيضّ رأسه من السم.
والزبيبتان : زبدتان في شدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام ، قالت أم غيلان بنت جرير : ربما أنشدت أبى حتى تزبّب شدقاى.
__________________
(١) صحيح مسلم : ٦٨٩.
(٢) سورة آل عمران ، آية ١٨٠