نكتة أصولية :
في هذا كله دليل على أنّ تأليف القرآن كان منزّلا من عند الله ، وأنّ تأليفه من تنزيله يبيّنه النبىّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، ويميّزه لكتّابه ، ويرتّبه على أبوابه ، إلا هذه السورة فلم يذكر لهم فيها شيئا ؛ ليتبين الخلق أنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، ولا يسأل عن ذلك كله ، ولا يعترض عليه ، ولا يحاط بعلمه إلا بما أبرز منه إلى الخلق ، وأوضحه بالبيان.
ودلّ بذلك على أن القياس أصل في الدين ؛ ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا الى قياس الشبه عند عدم النص ، ورأوا أنّ قصة «براءة» شبيهة بقصة «الأنفال» فألحقوها بها؟ فإذا كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنّك بسائر الأحكام.
وفي هذه السورة إحدى وخمسون آية :
الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
فيها أربع مسائل :
المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (بَراءَةٌ) ؛ أى هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، يقال : برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا منه برىء : إذا أزلته عن نفسك ، وقطعت سبب ما بينه وبينك.
المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : ولم يعاهدهم إلا النبىّ صلى الله عليه وسلم وحده ، ولكنه كان الآمر والحاكم ، وكل ما أمر به أو أحكمه فهو لازم للأمة ، منسوب إليهم ، محسوب عليهم ، يؤاخذون به ؛ إذ لا يمكن غير ذلك ؛ فإنّ تحصيل الرضا في ذلك من الجميع متعذر لوجهين :
أحدهما ـ اختلاف الآراء ، وامتناع الاتفاق على مذهب واحد.
والثاني ـ كثيرة عددهم المانع من تحصيل رضا جميعهم ، فوقع الاجتزاء بالمقدم من الوجهين ؛ فإذا عقد الإمام بما يراه من المصلحة أمرا لزم جميع الرعايا حكمه ، فإذا رضوا به كان أثبت
__________________
(١) آية ١