إلى الأمصار ، وقاتل على الحق ، وقدم عليهم غير خير الخلق الصدّيق ؛ فمهد الدين ، واستتبّ به أمر المسلمين ، والحمد لله رب العالمين.
المسألة الثالثة ـ قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) :
وهذه الوصية هي العمدة التي يكون معها النصر ، ويظهر بها الحق ، ويسلم معها القلب ، وتستمرّ معها على الاستقامة الجوارح ؛ وذلك بأن يكون عمل المرء كله بالطاعة في امتثال الأمر واجتناب النهى ، فإنما يقاتل المسلمون بأعمالهم لا بأعدادهم ، وباعتقادهم لا بإمدادهم ؛ فلقد فتح الله الفتوح على قوم كانت حلية سيوفهم إلا الغلابي (١). ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إنما تنصرون بضعفائكم. إشارة إلى أنّ الطاقة في الطاعة ، والمنة في الهداية.
المسألة الرابعة ـ قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) :
وهذا أصل عظيم في المعقول والمشروع ؛ وذلك أنّ الله خلق القوة ليظهر بها الأفعال ، وقدرته سبحانه واحدة تعمّ المقدورات ، وقدر الخلق حادثة متعددة تتعلق بالمقدورات على اختلاف أنواعها ، [وأجرى الله] (٢) العادة بأن القدر إذا كثرت على رأى قوم أو بقيت على رأى آخرين ـ والأوّل أصحّ حسبما بيناه في الأصول ـ ظهر المقدور بالنسبة إلى القدرة إن كان كثيرا فكثيرا أو قليلا فقليلا ، وكذلك تظهر المفعولات بحسب ما يلقى الله في القلوب من الطمأنينة ، فإذا ائتلفت القلوب على الأمر استتبّ وجوده ، واستمر مريره وإذا تخلخل القلب قصر عن النظر ، وضعفت الحواس عن القبول ، والائتلاف طمأنينة للنفس ، وقوة للقلب ، والاختلاف إضعاف له ؛ فتضعف الحواس ، فتقعد عن المطلوب ، فيفوت الغرض ؛ وذلك قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، وكنى بالريح عن اطراد الأمر ومضائه بحكم استمرار القوة فيه والعزيمة عليه ، وأتبع ذلك بالأمر بالصبر الذي يبلغ العبد به إلى كل أمر متعذر بوعده الصادق في أنه مع الصابرين.
الآية الرابعة عشرة ـ قوله (٣) : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
فيها مسألتان :
__________________
(١) هكذا بالأصول.
(٢) من ل.
(٣) الآية : ٥٧