وكلّها مراد ، وأقواها أوسطها ؛ فإن ذلك إنما يكون عن قوة المعرفة ، ونفاذ القريحة ، واتّقاد البصيرة ، وهي الشجاعة المحمودة في الناس ، ولم يكن فيها أحد أقوى من الصدّيق رضى الله عنه ، فإنه كان أشجع الخليقة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمضاهم عزيمة ، وأنفذهم قريحة ، وأنورهم بصيرة ، وأصدقهم فراسة ، وأصحهم رأيا ، وأثبتهم [جأشا] (١) ، وأصفاهم إيمانا ، وأشرحهم صدرا ، وأسلمهم قلبا.
والدليل عليه ظهور ذلك المقام في مقامات ستة :
المقام الأول ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم تكن مصيبة أعظم منها ، ولا تكون أبدا ، عنها تفرّعت مصائبنا ، ومن أجلها فسدت أحوالنا ، فاختلفت الصحابة ؛ فأما علىّ فاستخفى. وأما عثمان فبهت. وأما عمر فاختلط ، وقال : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما واعده الله كما واعد موسى ، وليرجعنّ رسول الله فليقطعن أيدى أناس وأرجلهم ، وكان أبو بكر غائبا بمنزله بالسّنح (٢) ، فجاء فدخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، وهو ميّت مسجّى بثوبه ، فكشف عن وجهه ، وقال : بأبى أنت وأمى ، طبت حيا وميتا! أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها (٣).
وخرج فصعد المنبر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت ، ثم قرأ (٤) : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).
المقام الثاني ـ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس أين يدفن ؛ فقال القوم : يدفن بمكة. وقال آخرون : ببيت المقدس. وقال آخرون : بالمدينة. فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما دفن قطّ نبىّ إلا حيث يموت.
المقام الثالث ـ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبى بكر الصديق تقول له : لو متّ ألم تكن ابنتك ترثك؟ قال : نعم. قالت له : فأعطنى ميراثي من رسول الله.
__________________
(١) ليس في ا.
(٢) سنح : إحدى محال المدينة كان بها منزل أبى بكر.
(٣) في ل : نلتها.
(٤) آل عمران ، آية ١٤٤