والكلام حقيقة هو
ما يجرى في النفس ، والحروف والأصوات عبارة عنه ، وأقل ما يحضر في القلب من العلم
علمان اثنان : أحدهما نسق الآخر ، ومثاله أن يعلم أنّ الجنة مطلوبة ، وأنّ الموصل
إليها آكد العمل الصالح ، فحينئذ يجتهد في العمل ؛ وآكد من هذا أن
تعلم الإيمان بالله بمعرفته ومعرفة صفاته وأفعاله ، وملكوته في أرضه وسمائه ؛ ولا
يحصل ذلك إلّا بالنظر في مخلوقاته ، وهي لا تحصى كثرة ؛ وأمهاتها السموات ، فترى
كيف بنيت وزيّنت من غير فطور ورفعت بغير عمد ، وخولف مقدار كواكبها ، ونصبت سائرة شارقة
وغاربة نيّرة ، وممحوّة ؛ كلّ ذلك بحكمة ومنفعة.
والأرض ؛ فانظر
إليها كيف وضعت فراشا ، ووطئت مهادا ، وجعلت كفاتا ، وأنبتت معاشا ، وأرسيت بالجبال ، وزينت بالنبات ، وكرمت
بالأقوات ، وأرصدت لتصرف الحيوانات ومعاشها ؛ وكلّ جزء من ذلك فيه عبرة تستغرق
الفكرة.
والحيوان أحد قسمي
المخلوقات ، والثاني الجمادات ؛ فانظر في أصنافها ، واختلاف أنواعها وأجناسها ،
وانقيادها وشرسها ، وتسخيرها في الانتفاع بها ، زينة وقوتا ، وتقلّبا في الأرض.
والبحار أعظم
المخلوقات عبرة ، وأدلها على سعة القدرة في سعتها ، واختلاف خلقها ، وتسيير الفلك
فيها ، وخروج الرزق منها ، والانتفاع في الانتقال إلى البلاد البعيدة بالأثقال
الوئيدة بها.
والهواء ؛ فإنه
خلق محسوس به قوام الرّوح في الآدمي وحيوان البر ، كما أن الماء قوام لروح حيوان
البحر ، فإذا فارق كلّ واحد منهما قوامه هلك ، وانظر إلى ركوده ثم اضطرابه ، وهو
بالريح.
والإنسان أقربها
إليها نظرا ، وأكثرها إن بحث عبرا ، فلينظر إلى نفسه من حين كونها ماء دافقا إلى
كونه خلقا سويّا ، يعان بالأغذية ، ويربّى بالرفق ، ويحفظ باللين حتى يكتسب القوى
، ويبلغ الأشد ؛ فإذا به قد قال أنا وأنا ، ونسى حين أتى عليه حين من الدهر لم يكن
__________________