فإن قيل : وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خلفا عن سلف إلى زمان عمر. وقلنا : نعم ، كذلك كان ؛ لأنّ اليهود غيّروا الرجم ، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم ، حتى يكون إبلاغا في الحجة على ما أنكروه من ذلك ، وغيّروه ، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم ، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون ، ويحصى ما يبدّلون وما يغيّرون ، ويقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون ، وينصر نبيّه وهم لا ينصرون.
الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى ، شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ روى مالك وغيره أنّ عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ...) الآية ، فقال عمر : سمعت (٢) رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال : إنّ الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرّيته (٣) ، فقال : خلقت هؤلاء للجنّة ، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته (٤) ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون.
فقال رجل : يا رسول الله ؛ ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار.
وقد تكلّم في سند هذا الحديث بكلام [قد] (٥) بيناه في كتاب المشكلين.
وقد ثبت وصحّ عن أبى هريرة أنه قال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كلّ نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كلّ رجل منهم وبيصا (٦) من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : يا رب ، من هؤلاء؟
__________________
(١) الآية الثانية والسبعون بعد المائة.
(٢) في ل : سألت.
(٣) في ل : ذرية.
(٤) من ل.
(٥) وبيصا : لمعانا وبريقا (القاموس).