وأين الفلاسفة وأناسها؟ هل في قدرة الطبيعة ـ إذا سلمنا وقلنا لها قدرة على طريق الجدل ـ أن تتقن هذا الإتقان البديع ، أو ترتب هذا الترتيب العجيب؟ كلّا ، لا يتمّ ذلك في المعقول إلا لحىّ عالم قادر مريد ، فقد علم الألبّاء (١) أنّ أميّا لا ينظّم سطور الكتابة ، وأنّ سواديّا (٢) لا يقدر على ما في الديباج من التزين والنساجة ؛ فسبحان من له في كلّ شيء آية بداية ونهاية ، فمن الله الابتداء ، وإنّ إلى ربك المنتهى ، تقدّس وتعالى.
المسألة السابعة ـ قوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) : فهذان بناءان جاءا بصيغة (٣) افعل ، وأحدهما مباح لقوله (٤) : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ). والثاني واجب على ما يأتى تفصيله إن شاء الله ، وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب ؛ لما يأتى في ذلك من الفوائد ، ويتركّب عليه من الأحكام ، فأما الأكل فلقضاء اللذة ، وأما إيتاء الحقّ فلقضاء حقّ النعمة ، فلله تعالى على العبد نعمة في البدن بالصحة ، واستقامة الأعضاء ، وسلامة الحواسّ ، ونعمة في المال بالتمليك والاستغناء ، وقضاء اللذات ، وبلوغ الآمال ؛ ففرض الصلاة كفاء نعمة البدن ، وفرض الزكاة كفاء نعمة المال ، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ؛ ليبيّن أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف.
المسألة الثامنة ـ قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) :
اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال :
الأول ـ أنه الصدقة (٥) المفروضة ؛ قاله سعيد بن المسيب وغيره ، ورواه ابن وهب ، وابن القاسم ، عن مالك في تفسير الآية.
الثاني ـ أنها الصدقة غير المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصّرام (٦) ؛ وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير ؛ قاله مجاهد.
الثالث ـ أن هذا منسوخ بالزكاة ؛ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير.
وقد زعم قوم أنّ هذا اللفظ مجمل ولم يخلصوا (٧) القول فيه ، وحقيقة الكلام عليه أن
__________________
(١) الألباء : العقلاء.
(٢) السواد : الرجل من العامة.
(٣) أى بصيغة الأمر.
(٤) سورة الجمعة ، آية ١٠.
(٥) في القرطبي (٧ ـ ٩٩) : أنه الزكاة المفروضة.
(٦) صرام النخل : أوان إدراكه.
(٧) في ل : ولم يحصلوا.