ومآله ، ولقد يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فالرئاسة للسياسة والملك لنفى الملك (١) ، وجور السلطان عاما واحد أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة ، فأنشأ الله الخليقة لهذه الفائدة والمصلحة على الملوك والخلفاء ، كلما بان خليفة خلفه آخر ، وكلما هلك ملك ملك بعده غيره ؛ ليستتبّ به التدبير ، وتجرى على مقتضى رأيه الأمور ، ويكفّ الله سبحانه به عادية الجمهور ؛ فإذا بعث نبيا سخّر الله سبحانه له الملك في وقته إن كان ضعيفا ، فكان صغوه (٢) إليه وعونه معه ، كما فعل بدانيال وأمثاله.
وإن بعثه قويا يسّر له الاستيلاء على الزمان وأهله ، وأعرى أرض السلطان عن ظلّه ، وجعل الأمر في الدين وأهله ، كما فعل بموسى ، ولما أراده الله من التيسير على نبيه محمد ، والتقديم له ، والتشريف لقومه أسكن أباه إسماعيل البلدة الحرام حيث لا إنس ولا أنيس ، واستخرج فيها ذريته ، وساق إليه من الجوار من عمرت به تلك البلاد والديار ، وجرّدهم عن الملك تقدمة لرئاسة الملة ، وكانوا على جبلّة الخليقة وسليقة الآدمية ، من التحاسد والتنافس ، والتقاطع والتدابر ، والسلب والغارة ، والقتل والثارة ، ولم يكن بدّ في الحكمة الإلهية والمشيئة الأولية من كاف يدوم مع الحال ، ورادع يحمد معه المآل ؛ فعظّم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام لحقّه ، وأوقع في نفوسهم هيبته لحكمته ، وعظّم بينهم حرمته لقهره ؛ فكان من لجأ إليه معصوما به ، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه ، ولذلك قال تعالى (٣): (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ). بيد أنه لما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كلّ مظلوم ، ولا يناله كلّ خائف جعل الشهر الحرام ـ وهي :
المسألة السابعة ـ ملجأ آخر ، فقرّر في قلوبهم ، وأوقع في نفوسهم حرمة الأشهر الحرم ؛ فكانوا لا يروّعون فيها سربا (٤) ، ولا يطلبون فيها ذنبا ، ولا يتوقعون فيها ثأرا ، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه.
واقتطعوا فيها ثلث الزمان ، ووصلوا منها ثلاثة متوالية ، فسحة وراحة ، ومجالا للسياحة في الأمن واستراحة ، وجعلوا منها واحدا مفردا في نصف العام ، دركا للاحترام ؛ ثم يسّر لهم
__________________
(١) في ا : المهالك ، وهو تحريف.
(٢) صغوه : ميله.
(٣) سورة العنكبوت ، آية ٦٧
(٤) في ل : سرحا. والسرب : الملك والطريق.