الثالث ـ أنه قال : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ؛ وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ؛ لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع الضمير إليه. والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع الضمير إليها لم يتقدم لها ذكر.
الرابع ـ أنه قال : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ؛ والذي يتصوّر فيه الهدى مثل المفتول من النّعم ؛ فأما القيمة فلا يتصوّر أن تكون هديا.
فإن قيل : القيمة مثل شرعي من طريق المعنى في الحيوان وغيره ، حتى يقال القيمة مثل للعبد ، ولا يجعل في الإتلاف مثله عبدا يغرم فيه ، وأوجبنا في ذوات الأمثال في المتلفات المثل خلقة ؛ لأن الطعام كالطعام والدهن كالدهن ؛ ولم يوجب في العبد عبد مثله ؛ لأنّ الخلقة لم تقم بالمثلية ، فكيف أن يجعل البدنة مثلا للنعامة.
قلنا : هذا مزلق ينبغي أن يتثبّت فيه قدم الناظر قليلا ، ولا يطيش حلمه ، فاسمع ما نقول ، فلا خفاء بواضح الدليل الذي قدمناه من كتاب الله ، وليس يعارضه الآن ما موّهوا به من أن النعامة لا تماثلها البدنة ؛ فإن الصحابة قضوا بها فيها ، وهم بكتاب الله أفهم ، وبالمثل من طريق الخلقة والمعنى أعلم ، فلا يتوهم متوهّم ، سواه إلا وهم ، ولا يتّهمهم في قصور النظر ، إلا من ليس بمسلم.
والدقيقة فيه أنّ مراعاة ظاهر القرآن مع شبه واحد من طريق الخلقة أولى من إسقاط ظاهر القرآن مع التوفّر على مراعاة الشبه المعنوي ؛ وهذا ما لا يستقل بدركه في مطرح النظر إلا نافذ البصيرة والبصر.
فإن قيل : يحتمل أنهم قوّموا النعامة بدراهم ، ثم قوّموا البدنة بدراهم.
قلنا. هذا جهل من وجهين :
أحدهما ـ أن سرد الروايات على ما سنورده يبطل هذا ؛ فإنه ليس فيه شيء منه.
الثاني ـ أن قيمة النعامة لم تساو قطّ قيمة البدنة في عصر من الأعصار ، لا متقدم ولا متأخر ، علم ذلك ضرورة وعادة ، فلا ينطق بمثل هذا إلا متساخف بالنظر. وإنما سقطت المثلية في الاعتداء على الحيوان من باب المزابنة (١) ، وقد بينّاه في كتب الفقه.
__________________
(١) المزابنة : بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر ، ونهى عن ذلك لأنه بيع مجازفة من غير كيل ولا وزن (المختار).