الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ نهى الله سبحانه أهل الكتاب عن الغلوّ (٢) في الدّين من طريقيه : في التوحيد ، وفي العمل ؛ فغلوّهم في التوحيد نسبتهم له الولد سبحانه ، وغلوّهم في العمل ما ابتدعوه من الرّهبانية في التحليل والتحريم والعبادة والتكليف.
وقال صلى الله عليه وسلم (٣) : لتركبنّ سنن (٤) من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ خرب لدخلتموه.
وهذا صحيح لا كلام فيه ، وقد ثبت في الصحاح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم سمع امرأة من الليل تصلى ، فقال : من هذه؟ قيل (٥) : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل كلّه. فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية في وجهه ، وقال : إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا ، اكلفوا من العمل ما تطيقون.
وروى فيه أيضا أنه قال : إن هذا الدين متين فأوغل (٦) فيه برفق فإنّ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى (٧).
المسألة الثانية ـ لما أخبر النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنا نتبع من قبلنا في سننه ، وكانت الكفرة قد شبّهت الله سبحانه بالخلق في الولد ، وشبّهت هذه الأمة الباري تعالى بالخلق في مصائب قد بيّناها في الأصول لا نقصر في الباطل عن الولد ، وغلت طائفة في العمل حتى ترهّبت وتركت النكاح ، وواظبت على الصوم ، وتركت الطيبات ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنّتى فليس منّى. وسنكشف ذلك في موضعه هاهنا بالاختصار ؛
__________________
(١) الآية السابعة والسبعون.
(٢) الغلو : مجاوزة الحد ، والإفراط.
(٣) صحيح مسلم ٢٠٥٤ ، وفيه لتتبعن.
(٤) السنن : الطريقة كالسنة.
(٥) الإصابة : ٤ ـ ٢٧٠
(٦) الإيغال : السير الشديد. يريد سر فيه برفق وابلغ الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق ، ولا تحمل على نفسك وتكلفها ، ما لا تطيق فتعجز وتترك الدين والعمل.
(٧) المنبت : يقال للرجل إذا انقطع به سفره وعطبت راحلته : قد أنبت. والظهر : الإبل التي يحمل عليها وتركب (النهاية).