والثاني ـ أنه الجارح.
وحقيقة الكلام هل هو في الضميرين واحد أو كلّ ضمير يعود إلى مضمر ثان؟
وظاهر الكلام أنه يعود إلى واحد الضميران جميعا ؛ وذلك يقتضى أنه من وجب له القصاص فأسقطه كفّر من ذنوبه بقدره ، وعليه أكثر الصحابة.
وعن أبى الدّرداء عن النبىّ صلى الله عليه وسلم (١) : ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلّا رفعه الله به درجة ، وحطّ عنه به خطيئة.
والذي يقول : إنه إذا عفا عنه المجروح عفا الله عنه لم يقم عليه دليل ، فلا معنى له.
الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :
قيل : نزلت فيما تقدم. وقيل : جاء ابن صوريا ، وشأس بن قيس ، وكعب بن أسيد إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم يريدون أن يفتنوه عن دينه ، فقالوا له : نحن أحبار يهود ، إن آمنّا لك آمن الناس جميعهم بك ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك لتقضى لنا عليهم ، ونؤمن بك ونصدّقك ؛ فأبى النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله سبحانه الآية ، وهي وقوله تعالى (٤) : (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) ـ بمعنى واحد.
المسألة الثانية ـ قال قوم : هذا ناسخ للتخيير ، وهذه دعوى عريضة ؛ فإنّ شروط النسخ أربعة منها : معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر. وهذا مجهول من هاتين الآيتين ، فامتنع أن يدعى أنّ واحدة منهما ناسخة للأخرى ، وقى الأمر على حاله.
المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) :
__________________
(١) القرطبي : ٦ ـ ٢٠٨.
(٢) الآية التاسعة والأربعون.
(٣) أسباب النزول : ١١٣.
(٤) الآية الثانية والأربعون من سورة المائدة.