قلت (١) : وإنما أنفذ النبىّ صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم ، ليحقّق تحريفهم وتبديلهم وتكذيبهم وكتمهم ما في التوراة.
ومنه صفة النبىّ صلى الله عليه وسلم ، والرجم على من زنا منهم.
وعنه أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله (٢) : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ؛ فيكون ذلك من آياته الباهرة ، وحججه البينة ، وبراهينه المثبتة للأمة ، المخزية لليهود والمشركين.
المسألة الرابعة ـ في التحكيم من اليهود :
قال ابن القاسم : إذا جاء الأساقفة والزانيان فالحاكم مخيّر إن شاء حكم أو لا؟ لأن إنفاذ الحكم حقّ الأساقفة.
وقال غيره : إذا حكم الزانيان الإمام جاز إنفاذه الحكم ، ولا يلتفت إلى الأساقفة ؛ وهو الأصحّ ؛ لأن مسلمين لو حكما بينهما رجلا لنفذ [حكمه] (٣) ولم يعتبر رضا الحاكم ؛ فالكتابيّون بذلك أولى ؛ إذ الحكم ليس بحق للحاكم على الناس ، وإنما هو حقّ للناس عليه.
وقال عيسى ، عن ابن القاسم : لم يكونوا أهل ذمة ؛ إنما كانوا أهل حرب ، وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري وغيره أنّ الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك (٤) ، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسم المرأة الزانية يسرة ، وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم : اسألوا محمدا عن هذا ، فإن أفتاكم بغير الرّجم ، فخذوه منه واقبلوه ، وإن أفتى به فاحذروه ؛ وهذه فتنة أرادها الله فيهم فنفذت ، فأتوا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فسألوه ، فقال لهم : من أعلم يهود فيكم؟ قالوا : ابن صوريا. فأرسل إليه في فدك ، فجاء فنشده (٥) الله ، فانتشد له وصدقه بالرّجم كما تقدم ، وقال له : والله يا محمد ، إنهم ليعلمون أنّك رسول الله ، ثم طبع [الله] (٦) على قلبه (٧) ، فبقى على كفره.
وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا وأمانا ، وإن لم يكن عهد ذمة
__________________
(١) في ل : قال القاضي رضى الله عنه.
(٢) سورة المائدة ، الآية ١٥
(٣) من ل.
(٤) فدك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة ، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في سنة سبع صلحا. (ياقوت).
(٥) نشده الله : سأله وأقسم عليه (النهاية).
(٦) ليس في ل.
(٧) طبع الله على قلبه : ختم عليه وغشاه ومنعه ألطافه (النهاية).