فتذكّر الأخرى ، لكانت شهادة واحدة ، وكذلك لو قال : فتذكّرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكرة الذاكرة الناسية ، فلما كرّر إحداهما أفاد تذكرة الذاكرة للغافلة وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن تذكر الغافلة وتغفل الذاكرة ؛ وذلك غاية في البيان.
المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).
اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال :
أحدها ـ لا يأب الشهداء عن تحمّل الشهادة إذا تحملوا.
الثاني ـ لا يأب الشهداء عن الأداء.
الثالث ـ لا يأب الشهداء عنهما جميعا ، لا يأب الشهداء عن التحمل إذا حمّلوا ولا يأبوا عن الأداء إذا تحمّلوا. وكذلك اختلفوا في حكم هذا النهى على ثلاثة أقوال : أحدها ـ أنّ فعل ذلك ندب. الثاني ـ أنّ ذلك فرض على الكفاية. الثالث ـ أنها فرض على الأعيان مطلقا ؛ قاله الشافعى.
والصحيح عندي أنّ المراد ها هنا حالة التحمل للشهادة ؛ لأن حالة الأداء مبيّنة بقوله تعالى (١) : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وإذا كانت حالة التحمّل فهي فرض على الكفاية إذا قال به البعض سقط عن البعض ، لأن إباية الناس كلّهم عنها إضاعة للحقوق ، وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال ؛ فصارت كذلك فرضا على الكفاية ؛ ولهذا المعنى جعلها أهل تلك الديار ولاية فيقيمون للناس شهودا يعيّنهم الخليفة ونائبه ، ويقيمهم للناس ويبرزهم لهم ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم. فلا يكون لهم شغر إلا تحمّل حقوق الناس حفظا ، وإحياؤها لهم أداء.
فإن قيل : فهذه شهادة بالأجرة.
قلنا : إنما هي شهادة خالصة من قوم استوفوا حقوقهم من بيت المال ، وقد بيّناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف.
المسألة التاسعة والعشرون ـ قال علماؤنا : قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) دليل على أنّ الشاهد هو الذي يمشى إلى الحاكم ، وهذا أمر انبنى عليه الشرع ، وعمل
__________________
(١) سورة البقرة ، آية ٢٨٣