والصحيح عندي أنّ المراد به البالغون من ذكوركم المسلمون ؛ لأنّ الطفل لا يقال له رجل ، وكذا المرأة لا يقال لها رجل أيضا. وقد بيّن الله تعالى بعد ذلك شهادة المرأة ، وعيّن بالإضافة في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) المسلم ؛ ولأن الكافر لا قول له ؛ وعنى الكبير أيضا ، لأنّ الصغير لا محصول له.
وإنما أمر الله تعالى بإشهاد البالغ ؛ لأنه الذي يصحّ أن يؤدّى الآن الشهادة ؛ فأما الصغير فيحفظ الشهادة ؛ فإذا أدّاها وهو رجل جازت ؛ ولا خلاف فيه.
وليس للآية أثر في شهادة العبد يرد ، وسيأتى القول فيها في تفسير قوله تعالى (١) : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) إن شاء الله.
المسألة الرابعة عشرة ـ عموم قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) يقتضى جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه ؛ فإنّ السمع في الأصوات طريق للعلم كالبصر للألوان ، فما علمه أداه ، كما يطأ زوجته باللمس والشم ، ويأكل بالذّوق ؛ فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه.
المسألة الخامسة عشرة ـ قال علماؤنا : أخذ بعض الناس من عموم هذه الآية في قوله تعالى : (مِنْ رِجالِكُمْ) جواز شهادة البدوىّ على القروىّ. وقد منعها أحمد بن حنبل ومالك في مشهور قوله.
وقد بيّنا الوجوه التي منعها أشياخنا من أجلها في كتب الخلاف ؛ والصحيح جوازها مع العدالة كشهادة القروىّ على القروىّ. وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم شهد عنده أعرابىّ على هلال رمضان ؛ فأمر بالصيام.
المسألة السادسة عشرة ـ قال علمانا قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) من ألفاظ الإبدال ، فكان ظاهره يقتضى ألّا تجوز شهادة النساء إلّا عند عدم شهادة الرجال ، كحكم سائر إبدال الشريعة مع مبدلاتها ؛ وهذا ليس كما زعمه ، ولو أراد ربنا ذلك لقال : فإن لم يوجد رجلان فرجل : فأما وقد قال : فإن لم يكونا فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم. والله أعلم.
__________________
(١) سورة النساء ، آية ١٣٥