فأما صدقة النّفل فالقرآن صرّح بأنها في السر أفضل منها في الجهر ؛ بيد أنّ علماءنا قالوا : إنّ هذا على الغالب مخرجه.
والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المعطى لها ، والمعطى إياها ، والناس الشاهدين لها.
أما المعطى فله فائدة إظهار السنة وثواب القدوة ، وآفتها الرياء والمنّ والأذى.
وأما المعطى إياها فإنّ السرّ أسلم له من احتقار الناس له أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنى عنها وترك التعفّف.
وأما حال الناس فالسرّ عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطى لها بالرياء ، وعلى الآخذ لها بالاستغناء ؛ ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة ، لكن هذا اليوم قليل.
الآية الخامسة والثمانون ـ قوله تعالى (١) : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ. وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).
فيها ثلاث مسائل :
المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : وفي ذلك قولان :
أحدهما ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ).
الثاني ـ قال ابن عباس : كانوا لا يرضخون (٢) لقراباتهم من المشركين ، فنزلت الآية.
وهذا هو الصحيح لوجهين : أحدهما أنّ الأول حديث باطل.
الثاني أنّ أسماء سألت النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، قالت : يا رسول الله ، إنّ أمّى قدمت علىّ راغبة وهي مشركة ، أفأصلها؟ قال : صلى أمّك ؛ فإنما شكّوا في جواز الموالاة لهم والصدقة عليهم ، فسألوا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ؛ فأذن لهم.
المسألة الثانية ـ قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا تصرف إليهم صدقة الفرض ؛ وإنما
__________________
(١) الآية الثانية والسبعون بعد المائتين.
(٢) يرضخون : يعطون.