التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الانفراد ، و (كَثِيراً) في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه كذا في إرشاد العقل السليم.
وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته ، وكذا يقال في الأخير وليس بذاك ، وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية ، وقيل : لأن التسبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان ، وقيل : إن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك كثيرا بما أوليتنا من نعمك ومننت به علينا من تحميل رسالتك ، ولا يخفى أنه لا يساعده المقام.
(إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به ، والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل ، والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى ، وروى عبد بن حميد عن الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة ، وجاء أن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هارون عليهالسلام ، فقد أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت : «رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بإزاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك مما أسألك أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا» ، ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلىاللهعليهوسلم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسّلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» كما بين في التحفة الاثني عشرية ، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى ، وينبغي أيضا أن يتأول طلبه صلىاللهعليهوسلم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة والسّلام كان أفصح الناس لسانا (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول ، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليهالسلام البتة وتقديره تعالى إياها حتما فكلها حاصلة له عليهالسلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هارون عليهالسلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليهالسلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليهالسلام فيه مع أخيه ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهماالسلام ، ونداؤه عليهالسلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليهالسلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا (مَرَّةً أُخْرى) أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة و (مَرَّةً) ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله