ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٠٧ ، الشعراء : ٣٢] وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله سبحانه : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) [النمل : ١٠ ، القصص : ٣١] من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة ، وقيل : إنها انقلبت حين ألقاها عليهالسلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى ، وعبر عنها بالاسم العام للحالين ، والأول هو الأليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل. وقد روى الإمام أحمد وغيره عن وهب أنه عليهالسلام حانت منه نظرة بعد أن ألقاها فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف.
وفي بعض الآثار أن بين لحييه أربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليهالسلام ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عزوجل ثم نودي يا موسى إليّ ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى بأخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا (قالَ) أي الله عزوجل ، والجملة استئناف كما سبق (خُذْها) أي الحية وكانت على ما روي عن ابن عباس ذكرا ، وعن وهب أنه تعالى قال له : «خذها بيمينك» (وَلا تَخَفْ) منها ، ولعل ذلك الخوف مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر.
وقيل : إنما خاف عليهالسلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عزوجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليهالسلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليهالسلام منها كما خاف موسى عليهالسلام من الحية ، وقيل : إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة ، وإنما عطف النهي على الأمر للإشعار بأن عدم المنهي عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط ، وقوله تعالى (سَنُعِيدُها) أي بعد الأخذ (سِيرَتَهَا) أي حالتها (الْأُولى) التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها ، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليهالسلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليهالسلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء ، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون ، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى.
قيل : بلغ عليهالسلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها ، وفي رواية الإمام أحمد ، وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين. والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليهالسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليهالسلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية (خُذْها وَلا تَخَفْ) فلم