في النفس (مَلِيًّا) أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعة ، وقال السدي : أبدا وكأنه المراد ، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل :
فتصدعت صم الجبال لموته |
|
وبكت عليه المرملات مليا |
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطويلا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل (اهْجُرْنِي) أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح ، وكأنه على هذا من تملى بكذا تمتع به ملاوة من الدهر (قالَ) استئناف كما سلف (سَلامٌ عَلَيْكَ) توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك ، وهو نظير ما في قوله تعالى «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين» في قوله ، وقيل : هو تحية مفارق ، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) [الممتحنة : ٨] الآية ، وقوله سبحانه (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) [الممتحنة : ٤] الآية ، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في صحيح مسلم «لا تبدأ اليهود والنصارى بالسلام» وقرئ «سلاما» بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله «واغفر لأبي» بقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٨٦] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله : ربي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال.
والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مم لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليهالسلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبيين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليهالسلام في الاستغفار ، قال العلامة الطيبي : إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه (لا (١) تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عزوجل : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة : ٢] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الممتحنة : ٣] ثم سلاهم عزوجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليهالسلام وقومه بقوله تبارك وتعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) [الممتحنة : ٤] إلى قوله تعالى شأنه (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليهالسلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليهالسلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى.
واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبيين كان كاستغفار إبراهيم عليهالسلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان ، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله