كان إذا أمسى وأصبح قال : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)» [الروم : ١٧ ، ١٨] وأخرج البيهقي وغيره عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال : الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه» وهذا من جملة شكره عليهالسلام.
وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليهالسلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر ، وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم ، وقال الزمخشري : يجوز أن يقال ذلك عن ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث إنه كان من شأن من ذكر أعني نوحا عليهالسلام ، وقيل ضمير (إِنَّهُ) عائد على موسى عليهالسلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليهالسلام هدى بناء على أن ضمير (جَعَلْناهُ) له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر.
(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم ، وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحيا جزما ، وصرح غير واحد بتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهذا عدي بإلى ، والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة ، وقيل إلى بمعنى على وروي ذلك أيضا عن ابن عباس : قال أي قضينا عليهم (فِي الْكِتابِ) أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية وابن جبير «الكتب» بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول واللوح المحفوظ على الأخير ، وأخرج ابن المنذر والحاكم عن طاوس قال : كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت : إن أناسا يقولون لا قدر قال : أو في القوم أحد منهم ، قلت : لو كان ما كنت تصنع به؟ قال : لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) جواب قسم محذوف ، وحذف متعلق القضاء أيضا للعلم به ، والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم والله لتفسدن إلخ ويكون هذا تأكيدا لتعلق القضاء ، ويجوز جعله جواب (قَضَيْنا) بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء الله تعالى لأفعلن كذا. والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس.
وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد «لتفسدنّ» بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال ، وقيل من الغلبة. وقرأ عيسى «لتفسدنّ» بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتكاب المعاصي (مَرَّتَيْنِ) منصوب على أنه مصدر (لَتُفْسِدُنَ) من غير لفظه ، والمراد إفسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليهالسلام وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولم يسمعوا من زكريا فقال الله تعالى له : قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ ممّا أوحي عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدية من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها.
وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليهاالسلام قيل قالوا : حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة ، وقال ابن إسحاق : هي قتل شعيا عليهالسلام وقد بعث بعد موسى عليهالسلام فلما بلغهم الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليهالسلام مات موتا ولم يقتل. وفي الكشاف أولاهما قتل زكريا وحبس أرميا والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهماالسلام ، وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهماالسلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، ثم ضم ذلك مع حبس أرميا في قرن غير سديد لأن أرميا كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة.
واختار بعضهم وقيل : إنه الحق أن الأولى تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرميا وجرحه إذ وعظهم وبشرهم