ورداها(١).
إنّه لم يَخَفِ الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك إلاّ من كان قوله لفعله مصدّقاً ، وسرّه لعلانيته موافقاً ، لاَنّ الله تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلاّ بظاهر منه ، وناطق عنه(٢).
____________
= (لا تزغ) الزيغ : الميل والعدول عن الحقّ.
(١)«رداها» الردى : الهلاك والضلال.
(٢)«لم يخف الله من لم يعقل عن الله» أي من لم يأخذ علمه عن الله كالاَنبياء والاَوصياء وكلّ من اقتبس من أنوارهم ، وذلك لاَنّ غيرهم إمّا مقلّد محض كالعامي ، أو جدليّ ظانّ كالكلامي ، وكلّ منهما لم يعرف أنّ الذي يصل إليه يوم القيامة إنّما هو من نتائج أخلاقه وتبعات أعماله التي لا تنفكّ عنها للعلاقة الذاتيّة بين الاَشياء وأسبابها فلم يخش الله حقّ خشيته.
(إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) [سورة فاطر ٣٥ : ٢٨] أهل اليقين والبرهان وأهل الكشف والعيان ، فإنّهم العارفون بأنّ الآخرة إنّما تنشأ من الدنيا على الاِيجاب واللزوم علماً قطعيّاً من غير تخمين وجزاف ، فهؤلاء هم الّذين عقدت قلوبهم على معرفة ثابتة غير قابلة للزوال.
«ولا يكون أحد كذلك» أي عالماً ربّانيّاً عاقلاً من الله.
«إلاّ من كان قوله لفعله مصدّقاً» أي لا يدلّ قوله على خلاف ما يدلّ عليه فعله.
«لاَنّ الله تبارك اسمه لم يدلّ ...» إنّه عليه السلام ادّعى أوّلاً أنّ الخوف من الله تعالى خوفـاً واقعيّـاً يصير سببـاً لترك الذنوب في جميع الاَحوال ، لا يكون إلاّ بأن يرزق العبد من الله تعالى عقلاً موهبيّاً يبصر حقيقة الخير والشرّ كما هي.
ثمّ بيّن عليه السلام ذلك بأنّ من لم يكن بهذه الدرجة من العقل لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة للخير والشرّ يبصرها ويجد حقيقة تلك المعرفة في قلبه.
ثمّ بيّن أنّ تلك المعرفة الثابتة يلزمها أن يكون قول العبد موافقاً لفعله ، وفعله موافقاً لسرّه وضميره ، لاَنّ الله تعالى جعل ما يظهر على الجوارح دليلاً على ما في القلب ، ويفضح المتصنّع بما يظهر من سوء قوله وفعله ، فثبت بتلك المقدّمات ما ادّعى عليه السلام من أنّ الخوف الواقعي لا يكون إلاّ بالعقل عن الله.