بالمشقّة ، ونظر إلى الآخرة فعلم أنّها لا تُنال إلاّ بالمشقّة ، فطلب بالمشقّة أبقاهما](١).
يا هشام! إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا ، ورغبوا في الآخرة ، لاَنّهم علموا أنّ الدنيا طالبةٌ ومطلوبةٌ ، والآخرة طالبةٌ ومطلوبة ، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى يستوفي منها رزقه ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت ، فيفسد عليه دنياه وآخرته(٢).
يا هشام! من أراد الغنى بلا مالٍ ، وراحة القلب من الحسد ، والسلامة فـي الدين ، فليتضرّع إلى الله عزّ وجلّ في مسألتـه بأن يُكملَ عقله ، فمن عقل قنع بما يكفيه ، ومن قنع بما يكفيه استغنى ، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.
يا هشام! إنّ الله جلّ وعزّ حكى عن قومٍ صالحين أنّهـم قالوا : (ربّنـا لا تزغ قلوبنـا بعد إذْ هديتنـا وهب لنـا مـن لدنك رحمـةً إنّك أنـت الـوهّــاب)(٣) حيـن علمـوا أنّ القلـوب تـزيـغ وتعـود اِلـى عمـاه
____________
(١) ما بين المعقوفتين أثبتناه من الكافي.
(٢) «إنّ الدنيا طالبة» طالبية الدنيا عبارة عن إيصالها الرزق المقدّر إلى من هو فيها ليكونوا فيها إلى الاَجل المقرّر ، ومطلوبيّتها عبارة عن سعي أبنائها لها ليكونوا على أحسن أحوالها ، وطالبية الآخرة عبارة عن بلوغ الاَجل وحلول الموت لمن هو في الدنيا ليكونوا فيها ، ومطلوبيّتها عبارة عن سعي أبنائها لها ليكونوا على أحسن أحوالها.
ولا يخفى أنّ الدنيا طالبة بالمعنى المذكور ، لاَنّ الرزق فيها مقدّر مضمون يصل إلى الاِنسان لا محالة ، طلبه أو لا (وما من دابةٍ في الاَرض إلاّ على الله رزقها) [سورة هود ١١ : ٦].
وإنّ الآخرة طالبة أيضاً ، لاَنّ الاَجل مقدّر كالرزق مكتوب (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلاّ قليلاً) [سورة الاَحزاب ٣٣ : ١٦].
(٣) سورة آل عمران ٣ : ٨.