وقال مجاهد والربيع : (الْقُدُسِ) من أسماء الله تعالى ـ كالقدوس ـ وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان ـ ومعلوم أن جبريل ليس كذلك ـ لكنه أطلق عليه على سبيل التشبيه من حيث إن ـ الروح ـ سبب الحياة الجسمانية ، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم ، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم ، وخص عيسى عليهالسلام بذكر التأييد (بِرُوحِ الْقُدُسِ) لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره ، كما قال تعالى : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [المائدة : ١١٠] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان ، ولأنه بالغ اثنا عشر ألف يهودي لقتله ، فدخل عيسى بيتا فرفعه عليهالسلام مكانا عليا. وقيل : ـ الروح ـ هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى ـ وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ـ وقال ابن زيد : الإنجيل ـ كما جاء في شأن القرآن ـ قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية ، وقيل : روح عيسى عليهالسلام نفسه ، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان ، أو لكرامته عليه تعالى ـ ولذلك أضافها إلى نفسه ـ أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث ، بل حصل من نفخ جبريل عليهالسلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها ، وقرأ ابن كثير «القدس» ـ بسكون الدال ـ حيث وقع ، وأبو حيوة «القدوس» بواو.
(أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) مسبب عن قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا) بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء ، وقد أدخلت ـ الهمزة ـ بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا ، والتعجيب من شأنهم على معنى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول ـ فعكستم بأن كذبتم ـ ويحتمل أن يكون ابتداء كلام ـ والفاء ـ للعطف على مقدر كأنه قيل : أفعلتم ما فعلتم ـ فكلما جاءكم ـ ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد ـ الفاء ـ فيكون العطف للتفسير ، وأن يكون غيره مثل «أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى» فيكون لحقيقة التعقيب ، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضي أنه لو كان كذلك لجاز وقوع ـ الهمزة ـ في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه ـ ولم تجئ إلا مبنية على كلام متقدم ، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة ـ بالواو أو الفاء ، أو ثم ـ في محلها الأصلي ، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية ، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع ـ على هذا ـ وفي البعض ـ على ذلك ـ بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام ـ والقلب يميل إليه ـ قيل : ولا يلزم بطلان صدارة ـ الهمزة ـ إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه ، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول ، أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ ، وهذا مراد من قال : إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير ، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه ، ولم يرد أنها صلة و (تَهْوى) من ـ هوي ـ بالكسر إذا أحب ، ومصدره ـ هوى ـ بالقصر ، وأما ـ هوى ـ بالفتح فبمعنى سقط ، ومصدره ـ هوي ـ بالضم وأصله فعول فأعل وقال المرزوقي : هوى ـ انقض انقضاض النجم والطائر ، والأصمعي يقول : هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد. وأهوت إذا انقضت للصيد ، وحكى بعضهم أنه يقال : هوى يهوي هويا ـ بفتح الهاء ـ إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل ، وهوى يهوي هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى ـ وما ذكرناه أولا هو المشهور ـ والهوي ـ يكون في الحق وغيره ، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر ، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر ، ومتعلق (اسْتَكْبَرْتُمْ) محذوف أي