تستر إلا أجزاء من
جسدهن ، بل وتعرض شعورهن وصدورهن وأذرعهن شبه العارية دون إحساس بالخجل. أما في
الشارع ، فإنهن تكشفن عن وجوههن ، وتحدقن بأعينهن في كل الاتجاهات بكامل الحرية
والانطلاق.
لقد أحس الصفار
بنشوة عارمة نتيجة لاقترابه الشديد من النساء. وحينما شرع في وصف سلوكهن وملابسهن
، تحول فجأة إلى شاعر ، وعمد إلى أسلوب السجع للرفع من المستوى الجمالي لأسلوب
كتابته والتعبير بصدق عن مشاعره الفياضة. ومن خلال أسلوبه البلاغي المتأنق ، نحس
بشوقه العميق إلى القيام بتجربة حسية ، لأن بعضا من العديد من تلك الصور التي
قدمها الصفار ، وإن كانت جلها غير أصلية ، توحي بوجود محاولة لديه للتكتم على
شهوانيته الجنسية التي هي من الطبائع الفطرية لبني الإنسان قاطبة. وكذلك كان
الصفار ، كما هو الحال مع جميع الأشياء ، يظهر مكبوتاته ويبديها. وبخلاف الطهطاوي
الذي كانت وجهات نظره في النساء الفرنسيات أقل إيجابية ، رأى الرحالة المغربي أنهن
قد كن في الجملة عفيفات فاضلات. وبطبيعة الحال ، فإن الصفار لم يكن يفهم الفرنسية
، لكن يبدو أنه أدرك أن الحواجز البدنية والمجالية القائمة بين الرجل والنساء في
المجتمع المغربي يوجد في فرنسا ما يقوم مقامها على هيأة مجموعة من الأعراف والطقوس
الأخلاقية المصطلح عليها باللياقة واللطافة أو الكياسة (Politesse)
التي تكون حاضرة بكل ثقلها كلما كان اللقاء بين الرجال والنساء. وبناء عليه ، فقد
ركز الصفار اهتمامه على أن يلقن الآخرين مبادئ أولية في موضوع السلوك القويم
الواجب نهجه سواء أثناء الإقبال على النساء والترحيب بهن أم عند توديعهن ، حتى لا
يرتكب المرء أي خطأ في إطار هذا المجال الحيوي من العلاقات الاجتماعية.
وكانت الرحلة
مليئة باللقاء مع الجديد ومع الأشياء المتميزة بغرابتها أو بطابعها المثير ، فكانت
تلاحق الرحالة مرحبة به في كل وقت وحين. غير أن تلك الأشياء الغريبة كان لها أيضا
منطقها الداخلي الخاص بها. وبالنسبة للصفار ، فإن فرنسا كانت تعني ذلك البلد الذي
يسود فيه النظام ، فما من موقع يقع عليه بصره إلا ويشاهد فيه الدلائل الناطقة بمدى
النجاح في وضع الأشياء في أماكنها الصحيحة : فالأشجار تنمو في صفوف منتظمة مستقيمة
، والحقول محروثة بطرق هندسية بديعة ، والشوارع أنيقة ومحتويات الخزانات مرتبة
بدقة ، والعساكر يمشون في صفوف متراصة ، والخيول مطيعة لراكبيها ، وحتى النساء
يصففن شعورهن بكامل الدقة