صغرى ضعيف الصحة تتناوبنى الأمراض ، ولذلك كنت مع أمى إلى سنة ١٨٩٢ فى ملك
صغير كان لنا فى ولاية ويلنا وفيه كانت خزانة الكتب الكبيرة فى أنواع منوعة فى
العلم جمعها جدى وأبى وقد ضاعت فى الحرب العالمية سنة ١٩١٥ مع كل ملك لنا. وكنت
أتعلم القراءة فى هذه الكتب وقرأت كثيرا من المؤرخين والقصاصين فى اللغة الروسية.
كنت أصغر أولاد أبى وأمى ولذلك نشأت بعيدا عن العشير والأتراب وربما صار هذا سببا
لحبى الوحدة وسوء الظن بالعالم والسويداء التى تعذبنى أحيانا حتى الآن.
وفى سنة ١٨٩٣
دخلت المدرسة الإعدادية (الجيمنازGymnasium)
فى ويلنا ، وأكملت دروسها سنة ١٩٠١. وكانت مدرستنا من أشهر المدارس فى ولايتها من
حيث تاريخها وترتيبها. قامت على أساس الكلية الويلناوية التى ألغيت سنة ١٨٣٩ على
أثر الثورة البولونية على روسية. وأصبحت مكتبة الكلية مكتبة عامة ، وبقى قسم منها
فى مكتبة المدرسة ولذلك رأيت فيها بعض كتب المشرقيات كمؤلفات العلامة دى ساسى (De Sacy). وقد حاولت فى الصف الأخير أن
أتعلم اللغة العربية من كتابه فى الصرف والنحو المشهور ولم يتيسر لى ذلك لضخامة
الكتاب وعدم المرشد. تخرج من كليتنا وفى مدرستنا عدد ليس بقليل من علماء المشرقيات
المشهورين فى روسية مثل سنكوقسكى (Senkovski)
المعلم الأول للغة العربية فى كلية للنغراد من سنة ١٨٢٠ إلى سنة ١٨٤٥ وتورايف (Turaev) عضو أكاديمية العلوم ومؤسس
الأبحاث فى قدماء المصريين فى روسية المتوفى سنة ١٩٢١. وقوتوتش (Kotovic) أستاذ اللغة المغولية فى كلية
لووف (Lvov) من بلاد بولونية الآن.
وكنت أهفو أيام
الطلب إلى علوم اللغات والآداب لا سيما اللغات «الميتة» اللاتينية واليونانية.
ومما كان يلذنى ويشوقنى تعلم أغانى هوميروس ، والروايات التمثيلية التى كتبها
شعراء اليونان فكنت أستظهرها وأرجعها. وكذلك كنت أحب علم التاريخ والإنشاء ، وكنت
أتمرن فى نظم الشعر ولكن لم أظفر منه بطائل. أما الرياضيات والطبيعيات فلم تتق
نفسى إليها وإن كنت غير قاصر فيها ، وأحرزت قصب السبق بين أقرانى ونلت نوط الذهب
عقبى المدرسة.
ولم أتجاوز
السادسة عشرة من عمرى حتى قويت أميالى وتعينت غرائزى وصرت أفكر فيما أجعله غرض
حياتى ، وقد رأيت بعد بحث طويل أن العلم يجذبنى إليه بقوة سحرية ، وأن الشرق يكون
ميدان أفكارى. ولا غرابة فقد زرت الشرق فى طفولتى وكان أبدا يتماثل نصب عينى. وكان
لى مثال آخر فى شخص أبى فإنى كنت أراه مكبا على الكتب والأوراق فى الليل والنهار
يبحث عن ماضى الزمان ورجاله.
وفى سنة ١٩٠١
دخلت قسم اللغات الشرقية فى جامعة لننجراد مدفوعا بعامل الميل وهوى