وبنفس هذا
الأسلوب القاطع يقرر المقدسى أن ابن خرداذبه هو المصدر الأساسى للجيهانى : «ألا
ترى أنك إذا نظرت فى كتاب الجيهانى وجدته قد احتوى على جميع أصل ابن خرداذبه وبناه
عليه» ، وفى موضع آخر من إحدى مسوداته يدعم قوله هذا بأمثلة محسوسة فيقول : «ورأيت
كتابه فى سبع مجلدات فى خزائن عضد الدولة غير مترجم وقيل بل هو لابن خرداذبه ورأيت
مختصرين بنيسابور مترجمين أحدهما للجيهانى والآخر لابن خرداذبه تنفق معانيهما غير
أن الجيهانى قد زاد شيئا يسيرا» .
ومن العسير
التسليم بصدق هذا الزعم استنادا على ألفاظ المقدسى وحده ؛ كما يجب أن نقرّ بحقيقة
ثابتة وهى أن الشذور التى تبقت لنا من الجيهانى لا تتفق عادة مع ما هو معروف لدينا
من نص ابن خرداذبه. غير أن هذا لا يعتبر رأيا قاطعا فى حد ذاته لأن طبعة دى خويه
إنما تمثل المسودة المختصرة لكتاب ابن خرداذبه وهى وحدها المعروفة إلى أيامنا هذه.
وليس بدعا أن نبصر فى رأى المقدسى بعض التشدد والمبالغة فقد عرف سلفا بالتشدد فى
الحكم على من سبقوه ؛ وفى مقابل هذا نجد المسعودى أكثر اعتدالا فى حكمه ، فهو حين
الكلام على مصادره يقول بصدد الجيهانى :
«أبو عبد الله
محمد بن أحمد الجيهانى ... ألف كتابا فى صفة العالم وأخباره وما فيه من العجائب
والمدن والأمصار والبحار والاتهار والأمم ومساكنهم وغير ذلك من الأخبار العجيبة
والقصص الطريفة» .
وما كان
للمسعودى ، وهو يتحدث عقب هذا مباشرة عن ابن خرداذبه ، أن يغض النظر عن الصلة
الوثيقة التى تربطه بالجيهانى لو وجدت تلك الصلة حقا كما زعم المقدسى.
وبالرغم من
إيجاز هذه الإشارات إلا أنها تمكننا من تحديد النمط الذى ينتمى إليه مؤلف الجيهانى
؛ فهو وإن انبعث من نفس الوسط الذى نشأت فيه أول حلقة معروفة لنا من المدرسة
الكلاسيكية إلا أنه لا ينتمى إلى هذه الجماعة لأنه يرتبط ارتباطا بينا بالجغرافيا
الرياضية من جهة ، ويوكد هذا تقسيمه المعمورة إلى سبعة أقاليم. ولدى المقارنة
يمكننا أن نقرر بالكثير من اليقين أن استعماله للفظ «إقليم» إنما بمعناه الأول ،
أى بوصفها أحزمة عريضة تنتظم المعمورة من الشرق إلى الغرب لا بمعنى المناطق
الجغرافية كما هو الحال مع مفهوم المدرسة الكلاسيكية. كذلك لا يوجد ثمة مبرر للأخذ
برأى هو نغمان Honigmann
الذى يعتقد أن
المسألة تتعلق بفكرة اقتران الأقاليم بالكواكب. والسمة الثانية التى تميز كتاب
الجيهانى عن تلك المدرسة هو اهتمامه البالغ بالبلاد الأجنبية وهو أمر غريب على
المدرسة الكلاسيكية ، أضف إلى هذا أيضا اهتمامه بالعجائب والغرائب المختلفةMirabilia.
واستنادا إلى
هذه الخطوط الرئيسية فإنه يمكن استشفاف بعض صلة الرحم بين هذا المصنف وكتاب ابن
خرداذبه ، بل وكتب بعض المؤلفين الذين مروا بنا كاليعقوبى وخاصة الجاحظ وابن
الفقيه ؛ فهذا الفن من المؤلفات فى الجغرافيا الوصفية يقدم معلومات واسعة متنوعة
تستطيع أن تجتذب أنظار الطبقات المثقفة لمجتمع ذلك العهد ؛ وهذا ما يؤكده إلى حد
ما المقدسى فى حكمه السلبى على الجيهانى. وقد استعمل