وجدته نسيج (١) وحده يتيما فى نظمه (٧٧) ولو وجدنا رخصة فى ترك جمع هذا الأصل ما اشتغلنا به ولكن لما بلّغنا الله تعالى أقاصى الإسلام وأرانا أسبابه وألهمنا قسمته وجب أن ننهى ذلك إلى كافة المسلمين ألا ترى إلى قوله تعالى قل سيروا فى الأرض أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا وفيما يذكر عبرة لمن اعتبر وفوائد لمن سافر» (٧٨).
وينضم كتاب المقدسى إلى السلسلة التى بدأها أبو زيد البلخى ، ويمكن اعتباره آخر ممثل للمدرسة الكلاسيكية الإسلامية بالمعنى الدقيق. وتنعكس صلته بهذه المدرسة فى الخارطات أكثر مما فى المتن نفسه ؛ وخارطاته تعيد إلى الذاكرة الطابع البدائى لخارطات الإصطخرى ويلاحظ فيها تقدم المعلومات الجغرافية الذى ينعكس بوضوح فى الكتاب نفسه. أما تقسيم المناطق عنده ـ ويطلق عليها كذلك اسم أقاليم ـ فيختلف بعض الشىء عما عليه الحال فى «أطلس الإسلام» ، ولكن الفرق بين المشرق والمغرب واضح جدا لديه. وهو يمس أحيانا معطيات الجغرافيا الفلكية ولكن مسا رفيقا (٧٩) ، كما وأنه يقصر وصفه على على العالم الإسلامى شأنه فى هذا شأن جميع ممثلى المدرسة الكلاسيكية ، واضعا فى اعتباره أمرين فحسب كما يقول هو نفسه :
«ولم نذكر إلا مملكة الإسلام حسب ولم نتكلف ممالك الكفار لأنها لم ندخلها ولم نر فائدة فى ذكرها بل قد ذكرنا مواضع المسلمين منها» (٨٠).
لهذا فلا نجد أية معلومات لديه عن أوروبا الشرقية أو سواحل البحر الأسود ؛ غير أن وجود المسلمين بتلك الأصقاع يضطره أحيانا إلى الكلام عن البلغار والخزر (٨١).
والفصول الأولى من الكتاب التى بمثابة مدخل إليه طويلة بعض الشىء ولا تخلو من الأصالة عند المقارنة بكتب السابقين له ، إذا تنعكس فيها شخصيته واضحة للعيان (٨٢) ؛ ومنها يستدل على أنه قد أعاد النظر فى المسودة بحيث يصبح من العسير تتبع الخطة فى كتابه. ويلى المقدمة التى اقتبسنا منها عدة مرات فى صلب كتابنا هذا وصف البحار والأنهار مع محاولة لربط وصف البحار كما هى العادة بنظرية مذهب البحرين. أما الفصل الذى يعقده للكلام على أسماء الأماكن (Toponomy) فيتناول فيه الحديث على المواضع المختلفة التى يجمع بينها اسم واحد والموضع الواحد الذى يحمل عدة أسماء. ويلى هذا فصلان يحويان وصفا موجزا لخصائص «الأقاليم» المختلفة والمذاهب الإسلامية. ويعترض السرد العام حكايته المشهورة للمغامرات التى مرت عليه خلال أسفاره وتجوالاته والتى يعرض لنا فيها لوحة من أمتع اللوحات التى تصور حياة المسلمين فى ذلك العهد رغما من أن عرضه لا يخلو من الزهو والفخر بالنفس.
وأول من لفت الأنظار إلى هذه الحكاية هو دى خويه (١٨٧٥) الذى ترجمها إلى الهولندية ترجمة كاملة بالتقريب. ومنذ ذلك الحين بدأت تتوالى ترجمات أقسام منها بقلم كريمرKremer (١٨٧٧) ونالينو
__________________
(*) يفضل كراتشكوفسكى قرامتها «تسبح» كما ورد بالأصل. (المترجم)