ثم الليبيون والأفارقة عامة ، ويلى هذا الترك ، فسكان الهند والسند وأخيرا الصينيون ومعهم الكوريون. ومن الغريب أن توجد لديه فكرة وحدة الشعوب السامية وذلك قبل عهد طويل من ظهورها كنظرية علمية فى أوروبا ؛ ولكن لا توجد لديه تسمية جامعة خاصة بهم. أما باقى الكتاب وهو ما يقرب من أربعة أخماسه فيغلب عليه الطابع التاريخى. وإن اتساع أفق المسعودى ليظهر بجلاء أيضا فى مصنفه هذا وهو لا يقتصر على تاريخ العرب وحدهم بل يولى اهتماما كبيرا لتاريخ إيران القديمة ولوصف المقاطعات البيزنطية بل ولتاريخ الكنيسة المسيحية.
ومن المستحيل إنكار ما يمتاز به المسعودى من تنوع النشاط العلمى وما يتصف به من موضوعية فى الحكم على ما يتعلق بالشعوب والأديان ؛ فهو يسأل باهتمام ممثلى مختلف العقائد ويفحص بانتباه فائق كتبهم ويتعرف جيدا على آدابهم ، وكان موقفه محايد إزاء النصارى واليهود والصابئة. وفى أثناء تحرك القرامطة على بغداد اطلع المسعودى على تعاليمهم وكتبهم بل وحادث دعاتهم الذين رفضوا تعاليم أهل السنة وأخذوا على عاتقهم تفنيدها دون معرفة جيدة بها (١٤). وإن تعدد نواحى اهتمامه لمدهش حقا فهو يجمع بشغف المعلومات عن اقتران البحر الأسود ببحر قزوين كما يجمعها أيضا حول موضوع : هل يمكن لوحيد القرن أن يمكث سبعة أعوام فى بطن أمه؟ وفى الإسكندرية يبحث بالكثير من الاهتمام انهيار منارة فاروس Pharos المشهورة فى زلزال عام ٣٤٤ ه ـ ٩٥٥ ؛ وفى سجستان يورد أول خبر معروف عن طواحين الهواء (١٥) ؛ وفى المنصورة بالهند يراقب حياة ثمانين فيلا ملكيا. وإنه لمما يدعو إلى الدهشة تمكنه من جمع وتحليل كل هذه المادة الضخمة.
غير أن منهجه فى التبويب لا يرقى إلى المستوى المطلوب فقد كان من الصعب عليه أن يأخذ نفسه باتباع منطق صارم سواء فى التفكير أو التعبير. وقد كان يزاول عمله بعجلة فائقة بحيث أضحى من العسير عليه أن يكون دائما فى حالة تسمح له بتحليل المادة المتنوعة التى جمعها من مختلف المصادر عن شعوب نائية. وقد أبان دوزى Dozy فيما يتعلق بالأندلس أنه لم يكن واضحا بالنسبة للمسعودى أحيانا الفرق بين أسماء الأعلام والأسماء العامة (١٦). ومهما يكن من شىء فإن المسعودى يقف على قمة المعارف الجغرافية لعصره وكان دائما يتطلع إلى الحصول على أحدث المعلومات عن البلاد التى لم يزرها بنفسه.
وطريقته فى التأليف تعتمد على العرض الأدبى لا على الإسناد ؛ ومن ثم فإنه نادرا ما يشير إلى مصادره. وما من شك فى أن مجال اطلاعه وقراءته كان واسعا ، ولكن هذا لا يبدو لنا جليا ، سواء عن قصد أو غير قصد ، خاصة فى معطياته الأثنوغرافية ، وهو شىء يعتبر بالنسبة لنا خسارة لا تعوض. وهو يشير بإيجاز إلى السابقين له فى مضمار الجغرافيا وفى حدود معلوماتنا عنهم ، فنلتقى عنده بأسماء الممثلين الرئيسيين لنمط المسالك والممالك (١٧) كالسرخسى والجيهانى الذى لم يصلنا مصنفه وابن خرداذبه المعروف لنا جيدا. وهنا يظهر لنا بجلاء سعة أفق المسعودى فهو لا يخشى أن يذكر أسماء الشخصيات التى كانت