الأولى لغلبتهم عليهم فأحببنا أن لا نخلى كتابنا هذا من ذكرهم وإن كنا قد ذكرنا سائر الممالك التى على وجه الأرض وما أزيل منها ودثر وما هو باق إلى هذا الوقت وأخبار ملوكهم وسياساتهم وسائر أحوالهم فيما سميناه من كتبنا على أنّا نعتذر من سهو إن عرض فى تصنيفنا مما لا يسلم منه من لحقته غفلة الإنسانية وسهوة البشرية ثم ما دفعنا إليه من طول الغربة وبعد الدار وتواتر الأسفار طورا مشرقين وطورا مغربين كما قال أبو تمام :
خليفة الخضر من يربع على وطن |
|
فى بلدة فظهور العيس أوطانى |
بالشأم قومى وبغداد الهوى وأنا |
|
بالرّقتين وبالفسطاط إخوانى |
وكقوله أيضا :
فغربت حتى لم أجد ذكر مشرق |
|
وشرقت حتى قد نسيت المغاربا |
خطوب إذا لاقيتهنّ رددننى |
|
جريحا كأنى قد لقيت الكتائبا |
ونحن آخذون فيما به وعدنا وله قصدنا وبالله نستعين وإياه نسأل التوفيق والتسديد» (٥). والأبيات الأخيرة لأبى تمام التى يختتم بها المسعودى مقدمته تدل دلالة واضحة على مبلغ اهتمامه بالعرض الأدبى الذى يحتل أحيانا بالنسبة له المكانة الأولى. ولم يكن المسعودى بالطبع عالما بحاثة على غرار البيرونى ولا متخصصا فى الجغرافيا أو التأريخ بل كان أديبا قبل كل شىء وناشرا للمعارف على منهج الجاحظ أو ابن الفقيه مع ميل أكثر نحو الجدية ونحو الأسلوب القصصى. فهو قاصّ ماهر ، وفى كتابه الذى يغلب عليه التأريخ وهو «مروج الذهب» يقابلنا أفضل تصوير للحياة الاجتماعية والثقافية فى عصر الخلافة ، فليس غريبا إذن أن يفتتن به فى السنوات السبعينيات من القرن الماضى شخص عرف بتقديره لهذا النوع من العرض التاريخى وهو المؤرخ الفرنسى ارنست رينان Ernest Renan (٦). وقد أعاد المسعودى تنقيح كتابه هذا مرتين الأولى حوالى عام ٣٣٦ ه ـ ٩٤٧ والثانية حوالى عام ٣٤٥ ـ ٩٥٦ ، وفى هذا الكتاب فصول يغلب عليها الطابع الجغرافى وقد تتحول أحيانا إلى استطرادات مطولة ، مثال ذلك ما كتبه عن البحار والأنهار ، وقبائل العرب والكرد والترك والبلغار ، وعن دور العبادة عند جميع شعوب العالم خاصة فى القوقاز. وطريفة ملاحظاته عن هجرات القبائل وعن الهند وعن الزنج ؛ والفصل الذى أفرده للصقالبة أضحى منذ أكثر من مائة عام موضوعا لبحث مستقل قام به شارمواCharmoy (٧) ((١٨٣٤ ولبحث آخر لماركفارت (٨) فى أوائل القرن العشرين. وعلى الرغم من تقدم النقد العلمى فلا يزال عدد من مشاكل هذا الفصل فى حاجة إلى الحل. ومنذ عهد غير بعيد ظهر رأى جديد يقول بأن دولة الديّره التى ذكرها المسعودى (٩) إنما هى إمارة كييف Kiev وأنه يجب أن نبصر فى هذا اللفظ اسم ديرDir الذى حكم فى وقت واحد مع أسكولدAskold (١٠). ولا تقلّ قيمة عن هذا رواية المسعودى عن حملات الروس يعد عام ٩١٢ ـ ٩١٣ على سواحل بحر قزوين الجنوبية إذ لا يفصله عن حوادثها أكثر من عشرة أعوام (١١)