الحقيقى فيما يبدو كان الرحلات الواسعة والاتصال المباشر بممثلى مختلف الطبقات ؛ وقد شملت رحلاته جميع البلدان من الهند إلى المحيط الأطلنطى ومن البحر الأحمر إلى بحر قزوين ، ومن المحتمل أن يكون قد زار الصين وأرخبيل الملايو. وكثيرا ما يثبت فى مصنفاته تاريخ زيارته لمواضع معينة ، وهو أمر وإن لم يمكنا من تتبع خطاه إلا أنه على أية حال يعطى فكرة عن تجواله الواسع العريض.
ولعل شخصية المسعودى ككاتب يمكن أن تكون أكثر جلاء لو أن مؤلفاته الكبرى لم تمسها يد الضياع ، ونخص منها بالذكر كتابيه الكبيرين «أخبار الزمان» الذى يقع فى ثلاثين جزءا والذى بدأ تأليفه فى عام ٣٣٢ ه ـ ٩٤٣ ، و «الكتاب الأوسط». غير أن هذه المؤلفات مع الأسف لم تعرف إلا من خلال اقتباسات ضئيلة ليست بذات أهمية ، فضلا عن أن الشك يعتور صحة نسبتها إليه (٣). وهكذا فمن بين جميع مؤلفاته العديدة المعروفة لدينا بأسمائها نستطيع إعطاء فكرة عن نشاطه العلمى اعتمادا على اثنين منها فقط أحدهما هو «مروج الذهب ومعادن الجوهر» (٤) ، وهو أكثر مؤلفاته التاريخية الثلاثية إيجازا ؛ وآخر يعكس مادة جغرافية بالمعنى الصحيح وهو كتاب «التنبيه والإشراف». وكلاهما يقف مثالا حيا لصعوبة الفصل بين المؤلفات التاريخية والجغرافية. وقد تم تأليف الأخير منهما فى عام وفاة المسعودى ، وهو يقدم لنا فيه خلاصة وافية لمعارفه وتحليلا لكل مؤلفاته ؛ ومقدمته تعطى فكرة محددة عن الخلط فى التبويب وعن الوفرة فى مادة كتبه التى لم تصلنا.
«ذكر الغرض من هذا الكتاب. قال أبو الحسن على بن الحسين بن على المسعودى أما بعد فإنا لما صنفنا كتابنا الأكبر فى أخبار الزمان ومن أباده الحدثان من الأمم الماضية والأجيال الخالية والممالك الداثرة وشفعناه بالكتاب الأوسط فى معناه ثم قفوناه بكتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر فى تحف الإشراف من الملوك وأهل الدرايات ثم أتلينا ذلك بكتاب فنون المعارف وما جرى فى الدهور السوالف وأتبعناه بكتاب الاستذكار لما جرى فى سالف الأعصار ذكرنا فى هذه الكتب الأخبار عن بدء العالم والخلق وتفرقهم على الأرض والممالك والبر والبحر والقرون البائدة والأمم الخالية الداثرة الأكابر كالهند والصين والكلدانيين وهم السريانيون والعرب والفرس واليونانيون والروم وغيرهم وتاريخ الأزمان الماضية والأجيال الخالية والأنبياء وذكر قصصهم وسير الملوك وسياساتهم ومساكن الأمم وتباينها فى عاداتها واختلافها فى آرائها وصفة بحار العالم وابتدائها وانتهائها واتصال بعضها ببعض وما لا يتصل منها وما يظهر فيه المد والجزر وما لا يظهر ومقاديرها فى الطول والعرض وما يتشعب من كل بحر من الخلجان ويصب إليه من كبار الأنهار وما فيها من الجزائر العظام وما كان من الأرض برّا فصار بحرا وبحرا فصار برّا على مرور الزمان وكرور الدهور وما قاله حكماء الأمم فى كيفية شبابها وهرمها وعلل جميع ذلك والأنهار الكبار ومبادئها ومصابّها ومقادير مسافاتها على وجه الأرض من ابتدائها إلى انتهائها والأخبار عن شكل الأرض وهيئتها وما قالته حكماء الأمم من الفلاسفة وغيرهم فى قسمتها والربع المسكون منها وحدبها وأنجادها وأغوارها