«وقد ذكرنا بغداد وسرّ من رأى وبدأنا بهما لأنهما مدينتا الملك. ودار الخلافة ووصفنا ابتداء أمر كل واحدة منهما فلنذكر الآن سائر البلدان والمسافات فيما بين كل بلد وبلد ومدينة ومدينة على قسم أربعة حسب ما تقسم عليه أقطار الأرض بين المشرق والمغرب ومهب الجنوب وهو القبلة وهو مطلع سهيل الذى يسميه الحسّاب التّيمن ومهب الشمال وهو كرسىّ بنات نعش الذى يسميه الحساب الجدى ونصف كل بلد إلى الربع الذى هو منه والذى يتصل به وبالله التوفيق» (٣٣).
وقد التزم المؤلف فى جميع كتابه هذا المنهج فى الوصف أى حسب الجهات الأصلية الأربعة ، فالقطاع الأول شمل الكلام على إيران وتركستان وأفغانستان مع فصول مفردة لحكام خراسان وسجستان ؛ والثانى يشمل غربى العراق وغربى وجنوبى الجزيرة العربية ؛ والثالث يشمل العراق الجنوبية والشرقية وشرقى الجزيرة العربية والهند والصين ؛ أما الرابع فبيزنطة ومصر والنوبة وشمال أفريقيا. والقسمان الثالث والرابع من الكتاب مفقودان فى المخطوطة ؛ وثمة عشر صفحات من المخطوطة عبثت بها يد البلى بصورة ضاعت معها خاتمة وصفه للبصرة ووصفه لبلاد العرب الشرقية وخوزستان وفارس والهند وجميع الشمال وبداية الغرب (٣٤).
ومن المستحيل إنكار النزعة التجديدية فى هذا التقسيم على أساس الولايات ؛ أما طرق المواصلات فقد نالت اهتماما كافيا بالرغم من أن المراحل لم تضبط بالدقة التى التزمها ابن خرداذبه. واهتمام اليعقوبى يتجه بالذات إلى الجانب الاحصائى الطوبوغرافى ، وهو يولى عناية كبرى للخراج ؛ ولكن كتابه يحفل أيضا بمسائل الاثنوغرافيا والصناعة والفنون. وقد اعترف عدد من الباحثين بأمانة اليعقوبى العلمية وتفرده بمعلومات وافية لا توجد فى المصادر الأخرى. ويمثل وصفه للخطط التاريخية لبغداد وسامرا أهمية منقطعة النظير ، كما يجب ملاحظة أنه ترك وصفا لأفريقيا قبل انفصالها مباشرة عن بقية أراضى الخلافة على يد الفاطميين وأنه أورد أخبارا قيمة عن الأندلس من بينها خبر إغارة النورمان عليها فى سنة ٨٤٤ حيث ترد فى صدد ذلك عبارته التى اشتهرت بالتالى وهى «الذين يقال لهم الروس» ، مما أدى إلى اشتهار اسم اليعقوبى فى الدوائر العلمية وظهور عدد من الأبحاث حول هذا. وأول من لفت الأنظار إلى ذلك فرين فى عام ١٨٣٨ (٣٥) اعتمادا على المخطوطة التى اكتشفها مخلينسكى قبل ذلك بقليل ؛ وقد جمع فرين بما عهد فيه من الدقة كل ما استطاع جمعه عن المؤلف وكتابه ؛ وفى نفس العام بين سنكوفسكى Senkovski لجمهرة القراء أهمية الاكتشاف الذى قام به فرين وذلك فى مقال له بعنوان «أصل الروس» O Proiskhojdenii Russov (٣٦). وبعد عشرة أعوام من هذا تمكن رينو استنادا على بحث فرين من تعريف الدوائر العلمية العريضة فى أوروبا بشخصية المؤلف وذلك فى مقدمته المشهورة فى الجغرافيا العربية (٣٧). وقد أصبح المتن فى متناول الأيدى بفضل الطبعات الجزئية والترجمة بقلم دى خويه (١٨٦٠) ويينبول llobnyuJ (١٨٥٦١) وتلى هذا أن ضمنه هركفى Harkavi فى عرضه العام (١٨٧٠) (٣٨)