هنا زرع وهناك حرث ، وأين حرث من زرع؟ فالزرع هو الإنبات ولا منبت حقيقة إلا الله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ ...) (٦ : ١٤١) (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ ...) (١٦ : ١١) (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (١٨ : ٣٢) (يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً) (٣٩ : ٢١) فإنشاء الزرع وإنباته ، وجعله وإخراجه ، إنه من الله ، مهما كان حصده وقطعه من خلق الله ، وإذا ينسب الزرع إليهم أحيانا بتلميح دون تصريح : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٤٨ : ٢٩) فانما هي نسبة مجازية توسعية لأنهم يبذرون وقد يسقون ويصلحون ، دون حول ولا قوة فيه إنشاء وإنباتا إلا بمشيئة الله ، فلو شاء لم تبدأ رحلتها ، ولو شاء لم تتم نباتها ونماءها ، ولو شاء لجعلها حطاما بثمارها ، أو قبل أن تؤتي ثمارها : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ...) : هشيما متفتتا متكسرا تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) : تتعجبون يائسين مما أصيب به زرعكم وتتحدثون قائلين : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) : مخسرون فيما بذرناه وبذلنا لزرعنا إذ خاب سعينا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : عن نصيبنا من رزق أو عن رحمة الله.
فلو أنكم أنتم الزارعون ، فلما ذا تحرمون منه أنفسكم وتغرمون؟ فما الزرع إلا من عند الله العزيز الحكيم ، يمنحكم ثمره ويسمح لكم خيره ، أن يسّر البذرة في رحلتها الناجحة كما فعل فيما تمنعون بأدواره الجنينية وقبلها ، حذوا بحذوه ف (لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت) (١).
ولتأخذوا درسا من البذرة المزروعة التي تحصدون ، أنكم كذلك في القيامة تحصدون ، فبذرة الحياة الدنيا لا حصاد لها وافيا إلا اليوم الذي فيه تحشرون.
وكما أن البذرة الميتة نباتيا تحيى مع الماء والأرض ، ثم تموت ، ومن ثم تحيى مرة اخرى ومرات في كل حصدة وزراعة ، فلو لا تصدقون أن الله الذي أحياكم
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ١٦٠ ـ أخرجه جماعة عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص) : ..