مسجد بكل الوجوه ، ظاهرة وباطنة ، ثم «وادعوه» : الله ـ عند كل مسجد (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : الطاعة والعبادة ، دون إشراك به في وجه من الوجوه ومنها الرئاء ، فإنه تعالى (كَما بَدَأَكُمْ) لا سواه «تعودون» إليه لا سواه ، ويا لها من لقطة واحدة عجيبة ، قفزة تجمع بين نقطة البدء في الرحلة الكبرى ، ونقطة الانطلاق والنهاية.
ثم لأن «كل مسجد» تشمل مربع : السجدة ، بزمانها ، ومكانها واتجاهها ، فالأمر ـ إذا ـ يحلق عليها كلها ، مما يلمح صارحة برجاحة أم فرض الصلاة في المساجد ، ومكية الآية ـ زعم أن الكعبة في العهد المكي لم يكن قبله بعد ، ولم تكن في مكة مساجد آنذاك ـ لا تمنع عن الأمر لأداء الصلاة في المساجد ، حيث الكعبة المباركة كانت هي القبلة في العهد المكي كما المدني إلّا شطرا قليلا في ثاني العهدين (١) ثم كلّ مكان متخذ للصلاة مسجد لمتخذه وإن لم يكن مسجدا عاما ، وكما أمرنا أن نخصص أمكنة خاصة في بيوتنا للصلاة ، وذلك عند إعواز المساجد الرسمية أم عسر الوصول إليها ، ثم الآية المكية ليست لتحصر حكمها بالعهد المكي ، كما المدنية لا تخص المدنيين ، فالقرآن ككلّ شرعة عالمية تتخطى حواجز الزمان والمكان ، مهما كان المخاطبون الأولون المكيين والمدنيين : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
وفي رجعة تفصيلية إلى ذلك المقطع اللّامع من لوامع الآية نتساءل : هل المشابهة هنا بين البدء والعود واقع؟ والبدء ولادة من الأرحام ابتداء (بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) والعود لا يعرف صلبا ولا رحما ولا أية ولادة!.
إنه في وجه المشابهة تشابه بين بدء الإنسان الأول حيث بدأنا به ، وبين العود ككلّ ، فكما خلقنا الله أول مرة من تراب ، كذلك يعيدنا من تراب (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) مرة أخرى.
وبوجه ثان «كما بدأكم» إنشاء من تراب كالإنسان الأوّل ، أم انتشاء الأنسال كسائر الإنسان ، ولم يعي بذلك الخلق الأول ، كذلك «تعودون»
__________________
(١) لمعرفة التفصيل راجع البقرة على ضوء آيات القبلة.