والصفح عن بوادرك. فكم مرة هفوت فأغضيت ، وكم إساءة نالتنى فغفرت ، وكم إخوان أبعدتهم عنك فقربتهم منك ، وأرجعتهم إليك ... فهل تنسى هذا أو تتناساه؟».
فكلمة : «كم» وحدها ـ قبل وضعها فى شىء من الكلام السابق ، مبهمة (أى : لا تدل على حقيقة المعدود وجنسه ، ولا على مقداره وكميته) ؛ إذ لا يدرى السامع المراد : أهو : كم يوم ، أم كم رجل ، أم كم إساءة ... أهو كثير أم قليل ... فلما ذكر الاسم المجرور بعدها أزال عنها الإبهام ، وكشف الغموض عن المعدود ، فبيّن حقيقته وجنسه ، وأوضح كمّيته بما يدل على أنها كثيرة. فكأنه يقول : مرات كثيرة ـ إساءات كثيرة ـ إخوان كثيرون. ومثله قول الشاعر :
وكم ذنب مولّده دلال |
|
وكم بعد مولده اقتراب |
فلا بدّ لإزالة الإبهام عنها من تمييز بعدها يوضح جنس المراد منها ، ومقداره. ولا يصح أن يجىء بعد التمييز بدل مقرون بهمزة الاستفهام (١) ، والمبدل منه هو : «كم» ، إذ لا دخل للاستفهام هنا مطلقا.
وبسبب أن الإخبار بها يرمى إلى كثرة المعدود وجب أن يكون هذا الإخبار عن شىء مضى ؛ لأن الذى مضى قد بان جنسه وكميته ؛ فيمكن الحكم عليها بالكثرة ، والإخبار بهذا الحكم ، أما الذى لم يمض فمجهول الجنس والمقدار غالبا ؛ ومن ثمّ كان الدافع إلى استعمال «كم الخبرية» هو الافتخار والمدح بكثرة شىء محبوب ، أو الذم بكثرة شىء معيب.
أحكامها :
١ ـ وجوب صدارتها فى جملتها ، إلا حين تكون مجرورة بحرف جر ، أو بإضافة ، نحو : لله أنت!! فإلى كم عمل نافع سارعت ؛ فحمد الناس إسراعك. وعند كم عقبة فى طريقه وقفت لتذليلها ؛ فأكبر العارفون شأنك. ٢ ـ صحة عودة الضمير إليها إما مفردا مذكرا ، مراعاة للفظها ، وإما مطابقا لمعناها ؛ مراعاة لما يحتمله مدلولها ... (٢). والأفصح مراعاة تمييزها ،
__________________
(١) انظر «ه» ص ٥٣٥.
(٢) مثل الضمير غيره مما يحتاج لمطابقة. ويوضح هذا الحكم ما سبق فى نظيرتها. (رقم ٣ ص ٥٢٩).