مع (١) ـ لهذه الكلمة أحوال ثلاثة ؛ تضاف فى اثنتين ، وتفرد فى واحدة ، الأولى : الظرفية ؛ بأن تكون ظرف مكان يدل على اجتماع اثنين واصطحابهما ، أو ظرف زمان يدل على ذلك ، أو ظرفا محتملا للأمرين ، عند عدم القرينة التى تعينه لأحدهما (٢) فقط. فمثال دلالته على المكان وحده قولهم : (التواضع مع التّكلّف زهر مصطنع ؛ لا فى العيون نضر ، ولا فى الأنوف عطر) وقولهم : (لا راحة لراض مع ساخط ، ولا لكريم مع دنىء). ومثال دلالته على الزمان وحده : يغادر الطير عشه مع الصباح الباكر ، ويعود إليه مع إقبال الليل(٣) ...
وليس من من اللازم عند استعماله فى الزمان أن يكون الاجتماع والتلاقى متصلين فعلا ؛ وإنما يكفى أن يكونا متقاربين غاية التقارب ، حتى كأنهما متصلان من
__________________
(١) سبقت لها إشارة موجزة لمناسبة أخرى فى باب : «الظرف» ج ٢ م ٧٩ ص ٢٧٨.
(٢ و٢) لبيان ما سبق نقول : إن كل اجتماع والتقاء بين اثنين لا بد أن يكون فى زمان واحد ، ومكان واحد ؛ ومحال أن يتم الاجتماع والتلاقى بغير الأمرين مقترنين حتما. ففى مثل : قعد الزميل مع زميله فى الغرفة ـ لا يمكن أن يتحقق قعودهما مجتمعين إلا فى زمان واحد يطويهما ، ومكان واحد يحويهما. ومن المستحيل أن يوجد الزمان بغير المكان ، أو العكس.
فإذا أردنا أن ندل على وقوع اصطحاب واجتماع بين اثنين فى أمر ـ كالجلوس ، مثلا ـ كان أمامنا أساليب متعددة لأداء هذا المعنى. ولكن أبلغها وأدقها هو اختيار اللفظة الواحدة المختصة بتأدية هذه الدلالة ؛ وهى لفظة : «مع» فنقول : جلس الأخ مع أخيه فى بيتهما ؛ بدلا من أن نقول : ظهر الأخ وأخوه فى مكان واحد هو البيت ، جلسا فيه فى وقت واحد ... أو : نحو هذا ، من الأساليب التى قد يصيبها التفكك والضعف ؛ بسبب إهمال الكلمات الخاصة التى هى نص فى معان معينة. ونقول : أكل الصديق مع صديقه ، بدلا من أكل الصديقان فى مكان واحد ، وزمان واحد ... أو : مصطحبين زمانا ومكانا فى أثنائه. فالاجتماع ـ كما أسلفنا ـ لابد أن يشمل الأمرين ؛ الزمان والمكان حتما. غير أن المقام يقتضى ـ أحيانا ـ الاهتمام بأحدهما وتوجيه المعنى إليه دون الآخر ؛ لوجود قرينة لفظية أو غير لفظية توجب الاقتصار على واحد ، كما فى المثالين السالفين ؛ فالفعل فى كل منهما قرينة تدل فى السياق الخاص على أن القصد متجه للمكان ، مقصور عليه وحده ، من غير اعتبار للزمان الملازم للمكان. أما فى مثل استيقظت من النوم مع الفجر ، وقصدت لعملى مع الشروق ـ فإن القرينة اللفظية فى السياق تدل على أن الغرض المقصود هو الزمان وحده ؛ إذ لا أهمية للمكان هنا كعدم أهمية الزمان هناك ، فالقرائن اللفظية أو غير اللفظية هى وحدها ـ كشأنها دائما ـ التى تتحكم فى تخصيص كلمة : «مع» بالمكان أو الزمان. وهذا هو المراد من قولهم : «إنها ظرف زمان أو مكان». ولكنه قول مختصر يراد منه ما شرحناه. فإن لم توجد تلك القرينة كانت «مع» محتملة للأمرين ، صالحة لكل منهما من غير ترجيح.