الحذف مناف لتلك الحكمة ، معارض للغرض من الإتيان بالمصدر المؤكّد (١).
لكن العرب التزموا حذف عامله باطراد فى بعض مواضع معينة ، وأنابوا عنه المصدر المؤكّد ؛ فعمل عمله فى رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، وأغنى عن التلفظ بالعامل ، وعن النطق بصيغته ؛ وصار ذكر العامل ممنوعا معه ؛ لأن المصدر بدل عنه ، وعوض عن لفظه ومعناه ؛ ولا يجتمع العوض والمعوّض عنه (٢).
ولما كان العرب قد التزموا الحذف باطراد فى تلك المواضع ، لم يكن بدّ من أن نحاكيهم ، ونلتزم طريقتهم الحتمية فى حذف العامل فى تلك المواضع ، وفى إنابة المصدر المؤكّد عنه. ولهذا قال النحاة : إن عامل المصدر المؤكّد لا يحذف جوازا ـ فى الصحيح ـ ؛ وإنما يحذف وجوبا فى المواضع التى التزم فيها العرب حذفه ، وإقامة المصدر المؤكّد مقامه.
ومع أن العامل محذوف وجوبا فإنه هو الذى ينصب المصدر النائب عنه (أى : أن المصدر نائب عن عامله المحذوف ، ومنصوب به معا).
أما المواضع التى ينوب فيها هذا المصدر عن عامله (٣) المحذوف وجوبا فبعضها خاص بالأساليب الإنشائية الطلبية ، وبعض آخر خاص بالأساليب الإنشائية غير الطلبية ، أو بالأساليب الخبرية المحضة (٤).
__________________
(١) فيما سبق يقول ابن مالك :
وحذف عامل المؤكّد امتنع |
|
وفى سواه لدليل متّسع ـ ٦ |
يريد : أن هناك متسعا للحذف فى غير عامل المؤكد ، عند وجود دليل على المحذوف.
(٢) سبقت الإشارة (فى رقم ١ هامش ص ١٩٨ وفى رقم ١ من هامش ص ٢١٣ إشارة أيضا) إلى أن الأفضل اعتبار المصدر النائب عن عامله قسما مستقلا بذاته يزاد على الأقسام الثلاثة المشهورة. والسبب أن كثيرا من المصادر النائبة عن عاملها المحذوف قد يكون مؤكّدا لعامله ، والأصل فى المؤكّد ألا يعمل ، وألا يحذف عامله ... و... مع أن المؤكّد هنا يعمل ويحذف عامله ؛ فيقع التعارض والتناقض بين حكم المؤكّد هنا وحكمه فى ناحية أخرى. ولا سبيل للتغلب على هذا التعارض والتناقض إلا بالتأويل والتقدير ؛ ـ وهذا معيب ـ ، أو باعتبار المؤكد هنا ، المحذوف عامله وجوبا ، قسما مستقلا. ولا ضرر فى هذا ؛ بل فيه تغلب على الصعوبة السالفة.
(٣) بعض المصادر المؤكّدة قد تنوب عن عوامل مهملة ، أو ليست من لفظها ؛ فتكون مقصورة على السماع ، كما يجىء فى ص ٢١١ مثل : ويح ، ويل ... وسيجىء الكلام عنها فى الزيادة ، ص ٢١٨.
(٤) سبق فى ج ١ ص ٢٦٨ م ٧٢ إيضاح للجملة الخبرية ، والجملة الإنشائية. وملخصه : أن الجملة الخبرية هى التى يكون معناها صالحا للحكم عليه بأنه صدق أو كذب ، من غير نظر لقائلها من ـ