ويعنينا الآن من تلك المواضع ما يكون فيه المجرور مصدرا مؤولا من حرف
__________________
ـ تمرون الديار ـ توجهت مكة ـ ذهبت الشام ... وهذا نوع قليل جدا ـ فهو غير مطرد ، وقد أوضحنا حكمه بأنه سماعى محض ؛ فلا يجوز فى الفعل الذى ورد معه أن ينصب غيره على نزع الخافض ، ولا يجوز فى الاسم المنصوب على نزع الخافض أن ينصب على هذه الصورة إلا مع الفعل الوارد معه ؛ فلا يجوز : توجهت الحديقة ، ولا ذهبت النهر ، ولا أشباه هذا ، لأن تعدية هذين الفعلين لم ترد عن العرب إلا فى : «مكة» و «الشام» على التوزيع السالف ، وكان ورودهما فيهما قليلا جدا فلا يسمح بالقياس. ومثلهما : مطرنا السهل والجبل ، وضربت الخائن الظهر والبطن ، أى : فى السهل والجبل ـ وعلى الظهر والبطن. والقول بأن هذه الأسماء منصوبة على نزع الخافض أولى من القول بأنها مفعول به ، وأن الفعل قبلها نصبها شذوذا ، لأن نصبها على المفعولية مباشرة ولو على وجه الشذوذ ـ قد يوحى ـ خطأ ـ أن الفعل قبلها متعد بنفسه ؛ وأن المعنى لا يحتاج إلى المحذوف ؛ فيقع فى الوهم إباحة تعديته مباشرة فى غيرها لكن إذا قلنا : «منصوبة على نزع الخافض» كان هذا إعلانا صريحا عن حرف جر محذوف ، نصب بعده المجرور ؛ فيكون النصب دليلا على ذلك لا يستقيم المعنى إلا بملاحظته ، وتقدير وجوده.
ومن هذا النوع المنصوب سماعا ما نصب على نزع الخافض للضرورة.
ب ـ نوع يحذف وينصب بعده المجرور أيضا ، ولكن على اعتباره مفعولا به مباشرة ـ للعامل الذى يطلبه ؛ كالحروف التى يكثر استخدامها فى تعدية بعض الأفعال ؛ فتجر الأسماء بعدها. وكذلك يكثر حذفها بعد تلك الأفعال ؛ فتنتصب الأسماء بعد حذفها ؛ مثل الفعل : «دخل» فقد استعملته العرب كثيرا متعديا بالحرف : «فى» ؛ مثل : دخلت فى الدار. وكذلك استعملته بغير «فى» ونصبت ما بعده فقالت : دخلت الدار ، ولم تقتصر فى حالة وجوده أو حذفه على كلمة «الدار» بل أكثرت من غيرها ، مثل : المسجد ـ الغرفة ـ الخيمة ـ القصر ـ الكوخ ـ فكثرة استعمال الفعل بغير حرف الجر ، ووقوع تلك الأسماء المختلفة بعده منصوبة مع عدم وجود عامل آخر ـ كل ذلك يدعو إلى الاطمئنان أن تلك الأسماء المنصوبة هى مفعولات للفعل الموجود ، وأن هذا الفعل نصبها مباشرة ؛ فلا حاجة إلى اعتبارها منصوبة على نزع الخافض ـ كما يرى بعض النحاة دون بعض ـ لما فى هذا من العدول عن الإعراب الواضح ، المساير لظواهر الألفاظ ومعانيها ـ إلى الإغراب ، والتعقيد من غير داع.
ومعنى ما سبق أن الفعل : «دخل» يعد من الأفعال التى تتعدى بنفسها تارة وبحرف الجر أخرى ، فهو : مثل : شكر ـ نصح ـ حيث تقول فيهما : شكرت لله على ما أنعم ، ونصحت للغافل بأن يشكره ، أو : شكرت الله على ما أنعم ، ونصحت الغافل بأن يشكره. وهذا النوع هو الذى وصفناه أول هذا الباب ـ عند تقسيم الفعل التام إلى متعد ولازم ، ص ١٤٥ ـ بأنه قسم مستقل بنفسه يسمى : الفعل الذى يستعمل لازما ومتعديا. وهذا النوع يطرد فيه النصب مع حذف حرف الجر كما يطرد الجر مع ذكر الحرف.
ح ـ نوع يحذف فيه الحرف قليلا مع بقاء مجروره على حاله من الجر ، كما كان قبل حذف الجار وهذا النوع القليل مقصور على السماع لا محالة ؛ فلا يجوز التوسع فيه بجر كلمات غير الكلمات التى وردت عن العرب كقولهم : «لاه ابن عمك» ... (أى : لله ابن عمك). فقد حذفت اللام وبقى مجرورها ؛ فلا يجوز عند حذفها وضع مجرور آخر ؛ كأن يقال : المجد أنت ـ العمل النافع أخوك. تريد : للمجد أنت ـ للعمل النافع أخوك ، فهذا ـ وأشباهه ـ مما لا يصح. ومن هذا المسموع القليل حذف «الباء» ، أو «على» ، مع بقاء مجرورها فى قول أعرابى سئل : كيف أصبحت؟ فأجاب : «خير والحمد لله» أى : ـ