يغيب عنه شيء ، عالمٌ لا يخفى عليه شيء ، قديرٌ لا يفوته شيء ، وأن تعرفه بالرأفة والرَّحمة والعدل ، وأنَّ له ثواباً أعدَّه لمن أطاعه ، وعذاباً أعده لمن عصاه ، وأن تعمل لله برضاه ، وتجتنب سخطه.
قال ابن الملك : فما رضي الواحد الخالق من الأعمال؟ قال الحكيم : يا ابن الملك رضاه أن تطيعه ولا تعصيه ، وأن تأتي إلى غيرك ما تحبُّ أن يؤتى إليك ، وتكفَّ عن غيرك ما تحبُّ أن يكفَّ عنك في مثله ، فإنَّ ذلك عدل وفي العدل رضاه ، وفي اتّباع آثار أنبياء الله ورسله بأن لا تعدو سنّتهم.
قال ابن الملك : زدني أيّها الحكيم تزهيداً في الدُّنيا وأخبرني بحالها.
قال الحكيم : إنّي لمّا رأيت الدُّنيا دار تصرف وزوال وتقلّب من حال إلى حال ، ورأيت أهلها فيها أغراضا للمصائب ، ورهائن للمتالف ، ورأيت صحّة بعدها سقماً ، وشباباً بعده هرماً ، وغنى بعده فقراً ، وفرحاً بعده حزناً ، وعزّاً بعده ذلّاً ، ورخاء بعده شدَّة ، وأمناً بعده خوفاً ، وحياة بعدها مماة ، ورأيت أعماراً قصيرة وحتوفاً راصدة (١) وسهاماً قاصدة ، وأبداناً ضعيفة مستسلمة غير ممتنعة ولا حصينة ، وعرفت أنَّ الدُّنيا منقطعة بالية فانية ، وعرفت بما ظهر لي منها ما غاب عنّي منها ، وعرفت بظاهرها باطنها ، وغامضها بواضحها ، وسرَّها بعلانيتها ، وصدورها بورودها ، فحذرتها لمّا عرفتها ، وفررت منها لمّا أبصرتها ، بينا تري المرء فيها مغتبطاً محبوراً (٢) وملكاً مسروراً (٣) في خفض ودعة ونعمة وسعة ، في بهجة من شبابه ، وحداثة من سنه ، وغبطة من ملكه ، وبهاء من سلطانه ، وصحّة من بدنه إذا انقلبت الدُّنيا به أسرَّ ما كان فيها نفساً ، وأقرَّ ما كان فيها عيناً ، فأخرجته من ملكها وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها ، فأبدلته بالعزِّ ذلا ، وبالفرح ترحاً ، وبالسرور حزناً ، وبالنعمة بؤسا ، وبالغني فقراً ، وبالسّعة ضيقاً ، وبالشباب هرماً ، وبالشّرف ضعة ، وبالحياة موتاً ، فدلّته في حفرة ضيقة شديدة الوحشة ، وحيداً فريداً غريباً قد فارق الاحبّة وفارقوه ، وخذله إخوانه
__________________
(١) الحتف : الموت من غير قتل والجمع حتوف. والراصد : المراقب.
(٢) أي مسروراً ، والحبر ـ بفتح الحاء وكسرها ـ السرور والجمع حبور وأحبار
(٣) في بعض النسخ « مشعوفا ».