الأحداث ويتبعون الشّهوات ، ويضيّعون العلم ، فكان العالم البالغ المستبصر منهم يخفى شخصه ولا يظهر علمه ، فيعرفونه باسمه ولا يهتدون إلى مكانه ولا يبقى منهم إلّا الخسيس من أهل العلم ، يستخفّ به أهل الجهل والباطل ، فيخمل العلم ويظهر الجهل ، ويتناسل القرون فلا يعرفون إلّا الجهل والباطل ، ويزداد الجهّال استعالاء وكثرة ، والعلماء خمولاً وقلّة ، فحوَّلوا معالم الله تبارك وتعالى عن وجوهها ، وتركوا قصد سبيلها ، وهم مع ذلك مقرُّون بتنزله ، متّبعون شبهه ابتغاء تأويله ، متعلّقون بصفته ، تاركون لحقيقته ، نابذون لاحكامه فكلُّ صفة جاءت الرُّسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلك الصّفة ، مخالفون لهم في أحكامهم وسيرتهم ، لسنا نخالفهم في شيء إلّا ولنا عليهم الحجّة الواضحة والبينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الكتب المنزلة من الله عزَّ وجلَّ ، فكل متكلّم منهم يتكلّم بشيء من الحكمة فهي لنا وهي بيننا وبينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا وسيرتنا وحكمنا ، وتشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم وأعمالهم ، فليسوا يعرفون من الكتاب إلّا وصفه ، ولا من الدِّين إلّا اسمه ، فليسوا بأهل الكتاب حقيقة حتّى يقيموه.
قال ابن الملك : فما بال الأنبياء والرُّسل عليهمالسلام يأتون في زمان دون زمان؟ قال الحكيم : إنّما مثل ذلك كمثل ملك كانت له أرض موات لا عمران فيها ، فلمّا أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلاً جلداً أميناً ناصحاً ، ثمّ أمره أن يعمر تلك الأرض وأن يغرس فيها صنوف الشجر وأنواع الزَّرع ، ثمّ سمّى له الملك ألوانا من الغرس معلومة ، وأنواعا من الزرع معروفة ، ثمّ أمره أن لا يعدو ما سمى له وأن لا يحدّث فيها من قبله شيئاً لم يكن أمره به سيّده ، وأمره أن يخرج لها نهرا ويسد عليها حائطا ، ويمنعها من أن يفسدها مفسد ، فجاء الرَّسول الّذي أرسله الملك إلى تلك الأرض فأحياها بعد موتها وعمّرها بعد خرابها ، وغرس فيها وزرع من الصّنوف الّتي أمره بها ، ثمّ ساق الماء إليها ، حتّى نبت الغرس واتّصل الزرع ، ثمّ لم يلبث قليلاً حتّى مات قيمها ، وأقام بعده من يقوم مقامه وخلف من بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده وغلبوه على أمره ، فأخرجوا العمران ، وطمّوا الانهار ،