إنَّ الزارع خرج ببذره الطيّب ليبذره ، فلمّا ملا كفيّه ونثره وقع بعضه على حافّة الطّريق فلم يلبث أن التقطه الطير ووقع بعضه على صفاة قد أصابها ندى وطين فمكث حتّى اهتزَّ. فلمّا صارت عروقه إلى يبس الصّفاة مات ويبس ، ووقع بعضه بأرض ذات شوك فنبت حتّى سنبل ، وكاد أن يثمر فغمّه الشّوك فأبطله ، وأمّا ما كان منه وقع في الأرض الطيّبة وإن كان قليلاً فإنّه سلم وطاب وزكى ، فالزارع حامل الحكمة ، وأمّا البذر ففنون الكلام ، وأمّا ما وقع منه على حافّة الطريق فالتقطه الطير فما لا يجاوز السّمع منه حتّى يمرَّ صفحاً ، وأمّا ما وقع على الصخرة في النّدى فيبس حين بلغت عروقه الصّفاة فما استحلاه صاحبه حتّى سمعه بفراغ قلبه وعرفه بفهمه ولم يفقه بحصافة ولا نيّة ، وأمّا ما نبت منه وكاد أن يثمر فغمّه الشوك فأهلكه فما وعاه صاحبه حتّى إذا كان عند العمل به حفّته الشّهوات فأهلكته ، وأمّا ما زكى وطاب وسلم منه وانتفع به فما رآه البصر ووعاه الحفظ ، وأنفذه العزم بقمع الشّهوات وتطهير القلوب من دنسها.
قال ابن الملك : إنّي أرجوا أن يكون ما تبذره أيّها الحكيم ما يزكو ويسلم ويطيب ، فاضرب لي مثل الدُّنيا وغرور أهلها بها.
قال بلوهر : بلغنا أنَّ رجلاً حمل عليه فيل مغتلم (١) فانطلق موليّاً هارباً وأتبعه الفيل حتّى غشيه فاضطرَّه إلى بئر فتدلّى فيها وتعلق بغصنين نابتين على شفير البئر ووقعت قدماه على رؤوس حيّات ، فلمّا تبيّن له أنَّه متعلّق بالغصنين فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين ، أحدهما أبيض والاخر أسود ، فلمّا نظر إلى تحت قدميه ، فإذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهنَّ ، فلمّا نظر إلى قعر البئر إذا بتنيّن فاغر فاه (٢) نحوه يريد التقامه ، فلمّا رفع رأسه إلى أعلا الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل فيطعم من ذلك العسل ، فألهاء ما طعم منه ، وما نال من لذة العسل وحلاوته عن التفكر في
__________________
(١) أي شديد الشهوة ، يعني فيل مست ، اغتلم الشراب : اشتدت سورته.
(٢) الفاغر : الفاتح فاه.