كما يحمل الأمر على الاعتقاد لأن أكثرهم كانوا يقطنون في الطاقات حيث كانوا من جند الحامية لا غير (١). لكن هنا عنصر هام يميز فيما يبدو المدينة المستديرة عن الكوفة : إنه فقدان الأسواق في المساحة العمومية. كان وجودها في المرحلة الأولى قد تأكد في الطاقات (٢) ثم استقرت في مرحلة ثانية في الكرخ خارج المدينة (٣). صحيح أن هذه الممايزة في هذه النقطة المهمّة فعلا قد تؤيد بخصوص بغداد المنصور صورة المدينة الملكية والادارية ، أو التي صارت ادارية بصورة متزايدة. على أن الطاقات التي لم تقع بالمركز من حيث المجال ، تابعة للمجال العمومي لا للمجال السكني الخاص ، من حيث الوضع المؤسساتي وليست لها صبغة الاقامة ، فضلا عن إمكانية وجود الأسواق في هذا المكان بسبب قرار نقل ، لا منذ البداية ، لو صدقنا رواية أوردها الخطيب تحمل على الظن أن الأسواق كانت موجودة في بداية الأمر غير بعيد عن القصر أي في المركز (٤). الواقع أن تنقلات الأسواق تكشف عن التردد العميق الذي كان عليه المنصور بخصوص رؤيته لغائية انشائه الجديد ، أو على الأقل مقاومته لجاذبية النموذج الكوفي حيث بقيت مركزية الأسواق مكسبا جوهريا. ولا شك أنه كان يريد في البداية مدينة «ملكية» ، لكنها تامة. ولا شك أنه غير من تصوره بعد ثورة ابراهيم بن الحسن دون أن يستطيع المساس بالمخطط الأول للمدينة المستديرة. فقرر افساح المجال لإقامة جيش دائم قوامه ٠٠٠ ، ٣٠ رجل (٥) وقرر عندئذ منح القطائع والأرباع خارج الأسوار ، فتحولت بسرعة كبيرة إلى أرباض. وتم الانتقال من الوحدة المدنية المغلقة إلى المجموعة المدنية المركبة ، أي إلى المنطقة ـ المدينة ؛ إنه لانتقال حاسم إذ برز معه الثنائي
__________________
(١) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ الخطيب ص ٨٩ و ٧٧ ؛ العلي ، بحث مذكور ص ٩٥ ؛ Lass ـ.ner ,p.٥٤١
(٢) الخطيب ، ص ٨٠.
(٣) الخطيب البغدادي ، ص ٧٩. يرى لاسنر (op.cit.,pp.٧٤١ ـ ٨٤١) ، إن الانتقال إلى الكرخ لم يكن من باب الصدفة ، إذ لعل الكرخ كان السوق القديمة التي سبقت الإسلام في بغداد ، ولعلها استقرت نواة من العمران خارج الحوزة ، أثناء بناء المدينة المستديرة ، فلم يعمل المنصور إلا على إعادة تطوير هذه المنطقة.
(٤) الخطيب ، ص ٧٨ ، لكن قصة البقرة المتنقلة في الأسواق والتي كان خوارها يبلغ مسامع الخليفة ليست مقنعة كل الاقناع ، إذ كان في إمكانه الإقامة بمدخل الأبواب أي غير بعيد عن الطاقات. لكن ما يعني الخطيب بقوله «السوق العتيقة»؟ مرجع مذكور ، ص ٩٠. إن أوضح الخطيب ، ص ٨٠ ، ان الأسواق كانت تقع في الطاقات بعد الانتهاء من بناء المدينة مباشرة ، فإن الطبري يؤكد أنه لا مراء في أنها نقلت عند غلق المنافذ بين الحزام السكني والمركز : التاريخ ، ج ٧ ، ص ٦٥٢ ـ أي في مرحلة تالية. واعتمد لاسنر (op.cit.,p.٥٤١) هذه الإشارة مدعيا أن الأسواق تسببت في نقل حراس الأبواب من أماكنهم ، دون الاستناد إلى أي مصدر.
(٥) الطبري ، ج ٧ ، ص ٦٣٨ ـ ٦٣٩. تصور العلي المشكل جيدا : بحث مذكور ، ص ٩٣. وما ذكره الطبري بخصوص بناء بغداد اعترضته رواية ثورة إبراهيم وكأن الأمر حدث قبلها وبعدها.