الأخيرة كانت مصطنعة الانشاء ، وكانت تقابل الكوفة وتستقبل منها قسرا كافة التأثيرات (١). وقد روي أن بغداد تقرر لها التمتع بموقع أفضل من موقع الكوفة. على أن الموقع لا يمكن اعتباره إلا عن طريق الغايات التي يختارها المؤسسون ، وليس في حد ذاته. كانت الكوفة أحسن موقعا ضمن تشكيلة معينة للتاريخ ، ولأن العرب الأولين أدركوا بطريقتهم ما كان للفضاء الجديد المفتوح من اعتبار : كانت الكوفة تستجيب لتخوفهم تجاه الأهالي وتربطهم بالوطن الأم. وقد استجابت بغداد بدورها إلى تمثل جديد للفضاء والبشر الذين تكونت منهم الامبراطورية (٢) ، وقد ارتبطت بغاية أخرى تخالف غاية عمر. وظهر في إنشاء بغداد الطموح إلى الجديد ، ورمزية الجدة ، ومعنى الامبراطورية وعزتها ، كما برز تصور حديث للموقع الهندسي الذي كان لهذه الأمبراطورية (٣).
فما هي العناصر الرئيسية التي تركبت منها بغداد في خلافة المنصور؟ كان للمدينة المستديرة مركز ، حزام سكني ، وأسوار متشعبة (٤). وقد امتدت منذ البداية إلى أراض قامت خارج الأسوار (٥).
وكما حدث بالكوفة وواسط ، فقد حدد المركز المساحة العمومية حيث يوجد القصر والجامع الأعظم ، وقد كان القصر كذلك أوسع من المسجد (٦). كما أن هناك دارا للشرطة وبعض البنايات الادارية الأخرى وكما هو الشأن بالكوفة أيضا ، فإننا نجد حزاما سكنيا يحيط
__________________
ينبغي التمييز بين قصر ابن هبيرة ومدينة ابن هبيرة. ويرى الطبري أن المنصور هو الذي أنشأها وهي تقع إلى جانب مدينة ابن هبيرة دون أن تكون قد انصهرت فيها : تاريخ ، ج ٧ ، ص ٦١٤.
(١) فتوح البلدان ، ص ٢٨٥ ؛ الطبري ، ج ٧ ، ص ٦١٤ ـ ٦١٥.
(٢) الطبري ، تاريخ ، ج ٧ ، ص ٦١٦ ـ ٦١٧ ؛ اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨. ورد في الكتابين خبر أصلي واحد عن بغداد كمفرق للطرق ، لكن الطبري يلح على ما كان لوضعها من قيمة استراتيجية بينما يبرز دورها التجاري في كتاب البلدان لليعقوبي.
(٣) Lassner ,ouvr.cit.,pp.١٣١ ـ ٢٣١.
(٤) اليعقوبي ، كتاب البلدان ، ص ٢٣٨ ـ ٢٤١ ؛ الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، ص ٦٩ ـ ٧٩ ؛ ابن الفقيه ، بغداد مدينة السلام ، نشر صالح أحمد العلي وهو القسم المتعلق ببغداد اعتمادا على مخطوطة مشهد ، ص ٣٣. أوضح لاسنر جيدا هذه البنية الثلاثية ، Lassner ,ouvr.cit.,p.٢٤١
(٥) الخطيب البغدادي ، ص ٨٣ ـ ٩٩ ؛ كتاب البلدان ، ص ٤١ : من الواضح أن الأرباع قسمت الارباض الخارجية إلى خطط مربعة الزوايا. والأرباع لا تهمّ الدائرة الداخلية كما ورد في كتب التاريخ الحديثة ، انطلاقا من هرزقلد؟؟؟ ، حتى صالح العلي ولاسنر اعتمادا على الطبري وحده : تاريخ ، ج ٧ ص ٦٥٢. على أنه من الممكن أن تكون الأرباع الخارجية امتدادا للأرباع الداخلية إن وجدت.
(٦) قياس القصر المذكور هو ٤٠٠ ذراع للضلع و ٢٠٠ ذراع لضلع المسجد لا غير : الخطيب ص ١٠٧ ؛ Lassner, ouvr. cit., pp. ٦٣١, ٩٨١. Creswell, Short Account, p. ٩٧١